Links
Archives
Tuesday, February 09, 2010
القرءان
من العلامات الفارقة في تاريخ النص القرآني، العلامة آرثر جفري؛ هذا الباحث الكبير الذي كرّس معظم حياته لدراسة القرآن الكريم، ولم ينل ما يستحق من اهتمام في العالم الناطق بالعربيّة. من هنا، فقد ارتأينا عام 1997 أن ننشر واحداً من أعماله الهامّة، القرآن ككتاب مقدّس؛ وبسبب كثرة المنع والمصادرة للكتاب التي رأيناها في سوريّا "العلمانيّة"، أحجمنا عن نشر باقي أعماله.
في لوس أنجلوس قبل أعوام، حالفنا الحظّ عن طريق صديق أميركيّ من كنيسة "يسوع للمسلمين" الانجيليّة، بأن تمكّنا من تصوير نسخة من كتاب آرثر جفري الأهم، Materials For the History of the Text of the Qur’an ( طبعة لايدن، 1937 ). هذا الكتاب الذي أخذ من صاحبه الجهد والوقت الكثير، في زمن حيث لا حواسيب ولا تقنيات عالية، يمكن اعتباره حتى اليوم النقلة الأهمّ في تاريخ فروقات المصاحف. ورغم عملي الطويل على نصّ جفري وإضافاتي الكثيرة إليه، فقد آثرت توخّياً للسلامة عدم نشر النتائج التي أخذتها عن جفري أو التي توصلت إليها ذاتياً؛ خاصة وأن نشري عام 1998 لنصوص رضاع الكبير في كتابي "أمّ المؤمنين تأكل أولادها" عاد علي بكثير من الألم والقرف. مع ذلك، فحبّ المعرفة مسألة لا تعرف الخوف ولا الحلول التوفيقية. من هنا، فقد آثرت أن أنشر اليوم ما عملت عليه منذ عام 2005، من نصوص جفري وتعليقاتي عليها.
طريقة العمل:
في سلسلة النصوص المتتالية التي تبدأ بنص مصحف ابن مسعود، سوف نعتمد أساساً نص جفري المترجم عن الانكليزية، ثم نضيف تعليقاتنا حيث يتوجب التعليق؛ مع ملاحظة أن التعليقات الموثقة بشكل كامل، تتخطّى حجماً نص الباحث البارز. ومن أجل سهولة الفرز والتمييز، نضع نص جفري ضمن أقواس() والنصوص من الشواهد ضمن أقواس صغيرة " ". كذلك فإن الفروقات النصيّة بين مصحف ابن مسعود ومصحف زيد بن حارثة سنحذفها لأنها موجودة في كتاب جفري أصلاً باللغة العربيّة. لكننا سنقدّم كعينة الفروقات بين نصي الفاتحة في المصحفين؛ رغم اتفاق معظم المراجع ذات الشأن أن ابن مسعود حذف الفاتحة من مصحفه. واعتقادنا هنا أنه لم ينف وجود الفاتحة كنص ليتورجي، لكنه لم يقبل أن تكون جزءاً من القرآن الكريم.
إن هدفنا الواضح من هذه السلسلة في تاريخ النص القرآني هو إظهار أن فروقات المصاحف كانت نصيّة، بمعنى أن القرآن الكريم قرئ ودوّن على نحو مختلف من قبل صحابة مختلفين؛ بغضّ النظر عن الحديث المتواتر هنا وهناك عن إسقاط آيات من القرآن الكريم أو حذف سور كاملة. ونلاحظ هنا أننا لم نعتمد غير مراجع أهل السنّة والجماعة في المسألة، لأنّ الدخول في معضلة تحريف القرآن أو نقصه في مراجع الإثني عشريين المعتمدة، كـ"الكافي" أو "من لا يحضره الفقيه"، لا تفيد إلا في زيادة تشويش الصورة. كذلك فقد ارتأينا أن نعتمد بعض النصوص الأدبيّة القديمة، ولدينا نظريّة تقول إن الأديب كان أكثر حرية في نقل وتدوين نصوصه من المؤرخ أو المحدّث أو المفسّر، الذين ارتبطوا بشكل أو بآخر بالسلطة الحاكمة وقتها، ومن ثم فقد كانت نصوصهم لا تخلو من رقابة عموماً.
من المفيد أن نذكر هنا أننا عملنا ما في وسعنا كي لا نتدخّل في النصوص التي اقتصر دورنا على جمعها وتنسيقها ومن ثم تقديمها كما هي، مهما كانت متناقضة إن ذاتيّاً أو النص مع الآخر. وربما كان ما دونّاه من عندياتنا في هذه الدراسة وما سيليها هو الأقل في تاريخ عملنا البحثيّ؛ فقد آثرنا أن نقوم بدور الرابط بين نصوص تخدم غرضنا من كل هذا البحث: تأكيد الاختلافات النصيّة بين المصاحف، كما أشرنا آنفاً.
قصّة عبد الله بن أبي سرح:
من أكثر الشخصيات غموضاً في التاريخ الإسلامي، الصحابي المدعوّ عبد الله بن أبي سرح. هذا الرجل، "كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة" (المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء، 97 ). إنه " عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن حبيب بن جذيمة، أبو يحيى القرشي العامري. أسلم قبل الفتح وهاجر وكان يكتب الوحي لرسول الله (ص) ثم ارتدّ منصرفاً وصار إلى قريش بمكة" (الوافي بالوفيات للصفدي 2394). فلماذا ارتدّ الرجل، وهو الذي أسلم وهاجر؟ كما لاحظنا، كان عبد الله من كتبة الوحي؛ وهذا سبب ارتداده. يقول القرطبي في تفسيره: "وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في «المؤمنون»: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" (المؤمنون:12) دعاه النبي (ص) فأملاها عليه؛ فلما انتهى إلى قوله "ثم أنشأناه خلقا آخر" (المؤمنون: 14) عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان؛ فقال: "تبارك الله أحسن الخالقين" (المؤمنون: 14). فقال رسول الله (ص) : "وهكذا أنزلت عليّ"؛ فشك عبد الله حينئذ؛ وقال: لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال. فارتدّ عن الإسلام ولحق بالمشركين، فذلك قوله: "ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله" رواه الكلبي عن ابن عباس " ( 1341 ). ويقول الصفدي في الوافي نقلاً عن ابن أبي سرح: "إني كنت أصرف محمداً حيث أريد - كان يملي عليّ عزيز حكيم؛ فأقول: أو عليم حكيم؟! فيقول: كلٌّ صواب" (2394). ويختصرها أبو الفداء بقوله: "وكان عبد الله المذكور قد أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، فكان يبدّل القرآن، ثم ارتدّ". (السابق). وفي العقد الفريد: "كان عبدُ اللّه بن سعد بن أبي سرح يكتب له، ثم ارتدّ ولَحِق بالمُشركين، وقال: إنّ محمداً يكتب بما شِئْتُ" (537). لذلك، حين دخل محمد مكة بعد انتصاره على قريش، كان ابن أبي سرح أحد أربعة أمر محمد بقتلهم "صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففرّ عبد الله بن سعد إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة، أرضعته أمّ عثمان - فغيّبه عثمان حتى أتى به رسول الله (ص) بعدما اطمأن أهل مكة فأستأمنه له، فصمت رسول الله (ص) طويلاً؛ ثم قال: نعم! فلما انصرف عثمان قال رسول الله (ص) لمن حوله: ما صمتُّ إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه! فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟" (الوافي). فقال النبي: "إِن الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين" (مختصر أبي الفداء 97).
نسيان، نصوص ضائعة، نصوص أكلها الدجاج:
في كتابنا "أمّ المؤمنين تأكل أولادها" قدّمنا معظم ما استطعنا الوصول إليه من نصوص حول مسألة رضاع الكبير، الآية التي قيل إنها ضاعت من القرآن الكريم. وفي "محاضرات الأدباء للأصفهاني"، نجد ملخصّاً لما ورد في أمّهات الكتب حول نقص القرآن: "أثبت زيد بن ثابت سورتي القنوت في القرآن، وأثبت ابن مسعود في مصحفه: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب. وروي أن عمر (رض) ؛ قال: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله تعالى لأثبت في المصحف، فقد نزلت الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله شديد العذاب.(القرطبي 901؛ 2725؛ 2726؛ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 2852؛ أسد الغابة 1385؛ 1472 ) وقالت عائشة: لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير (من أجل التفاصيل؛ أنظر: أم المؤمنين تأكل أولادها؛ راجع أيضاً: محلى ابن حزم 1860؛ تفسير القرطبي 912) وكانتا في رقعة تحت سريري، وشغلنا بشكاة رسول الله (ص) فدخلت داجن فأكلته. وقال علقمة: أتيت الشام فجاء رجل فقعد إلى جنبي فقيل لي: هو أبو الدرداء، فقال: ممن أنت؟ قلت: من الكوفة. قال: أتحفظ كيف كان يقرأ "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى" ؟ قلت: نعم هكذا أقرأنيه رسول الله (ص)، وفوه إلى فيّ فما زال هؤلاء بي حتى كادوا يردونني عنهما. وأثبت ابن مسعود: بسم الله في سورة البراءة. وقالت عائشة: كانت الأحزاب تقرأ في زمن الرسول (ص) مائة آية، فلما جمعه عثمان (القرآن) لم يجد إلا ما هو الآن وكان فيه آية الرجم؛ وأسقط ابن مسعود من مصحفه أم القرآن والمعوذتين" (510). وفي الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ورد التالي: "وكتب عثمان منهم فاتحة الكتاب والمعوذتين. وأخرج الطبراني في الدعاء … عن عبد الله بن زرير الغافقي؛ قال: قال لي عبد الملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حبّ أبي تراب، إلا أنك أعرابي جلف، فقلت: والله لقد جعلت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علمهما إياه رسول الله (ص) ما علمهما أنت ولا أبوك. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق. وأخرج البيهقي من طريق… عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع؛ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستدعيك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى نقمتك، إن عذابك بالكافرين ملحق. قال ابن جريج: حكمة البسملة أنهما سورتان في مصحف بعض الصحابة. وأخرج محمد بن نصر الروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين فذكرهما، وأنه كان يكتبهما في مصحفه. وقال ابن الضريس:… في مصحف ابن عباس قراءة أبي وأبي موسى: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، وفيه: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكفار ملحق. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي إسحاق، قال: أمنا أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بخراسان، فقرأ بهاتين السورتين: إنا نستعينك ونستغفرك. وأخرج البيهقي وأبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران أن جبريل نزل بذلك على النبي (ص) وهو في الصلاة مع قوله (ليس لك من الأمر شيء) الآية لما قنت يدعو إلى مضر" ( 77 ).
وفي محاضرات الأدباء ( 511 ) نقرأ عن ابن عروة عن أبيه: "سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله: إن هذان (الأصح: هذين) لساحران، وعن قوله: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة، وعن قوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون [الأصح: الصابئين]، فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتابة.
كان عمر (رض) يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما اقرأها وكان رسول الله (ص) أقرأنيها، فأخذت بثوبه وذهبت به إلى رسول الله (ص) فقلت: إني سمعته يقرأ القرآن على غير ما أقرأتني، فقال: اقرأ فقرأت، فقال (ص) هكذا أنزلت. ثم قال لهشام: اقرأ فقال (ص): هكذا أنزلت. ثم قال: إن هذا لقرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ".
في " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي "؛ نقرأ " عن ابن عمر؛ قال: قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله (ص) فكانا يقرآنها؛ فقاما ذات ليلة يصليان بها، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله (ص)؛ فذكروا له؛ فقال رسول الله (ص): إنها مما نسخ أو نسى فالهوا عنها!!… وعن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدث أنه كان يكتب المصاحف في عهد أزواج النبي (ص)؛ قال: فاستكتبتني حفصة ( زوج النبي ) مصحفاً؛ وقالت إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله (ص)! قال: فلما بلغتها جئتها بالورقة التي أكتبها فيها؛ فقالت: اكتب "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين"" ( 1241 ).
مصحف عبد الله بن مسعود ( مات عام 33 للهجرة ):
يقول آرثر جفري في كتابه الموسوعي، مواد من أجل تاريخ نص القرآن، (عبد الله بن مسعود ( يستشهد به في المراجع باسم عبد الله أحياناً وأحياناً أخرى باسم ابن أم عبد ) هو أحد الصحابة من أوائل من آمن حيث كان باستطاعته أن يفاخر أنه أسلم قبل عمر بن الخطّاب. في صباه رعى الغنم لعقبة بن أبي معيط وكان يشار إليه بنوع من الاحتقار أحياناً باسم عبد الحذلي (تاريخ الطبري، 1، 2821 ). حين أسلم كرّس نفسه للنبي وأضحى خادمه الشخصي. هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة أيضاً وحضر موقعتي بدر وأحد. كان يتفاخر بأنه تعلّم نحواً وسبعين سورة من فم النبي مباشرة، والروايات تقول إنه كان واحداً من أوائل الذين علموا قراءة القرآن (ابن سعد، III، i، 107). لا يبدو انه نال نجاحاً كبيراً في محاولته الحصول على منصب رسمي، لكنه في الكوفة، التي أرسله الخليفة إليها، اشتهر كمحدّث وكمرجع قرآني. وتخبرنا الروايات أنه كان أحد أربعة نصح محمد أمته أن تلجأ إليهم في الحصول على معلومات بشأن القرآن (خذوا القرآن من أربعة؛ النووي، 371؛ البخاري ( ط. كريل ) III، 396 ). ودون شك كان لعلاقته الشخصية الوطيدة بالنبي لسنوات عديدة الدور الرئيس في إعطاء تلك المكانة لآرائه في السنّة والقرآن ) ( ص 20 ).
مكانة عبد الله بن مسعود كمرجع قرآني:
انطلاقاً من إشارة جفري إلى مكانة ابن مسعود كمرجع قرآني عند النبي والمسلمين الأوائل، نبحر الآن في بعض النصوص من المراجع الإسلامية القديمة لنوثّق ما أشار إليه باحثنا الشهير؛ ففي أنساب أشراف البلاذري (2199)؛ نقرأ: "كان نفر من أصحاب رسول الله (ص) في دار أبي موسى يعرضون مصحفاً فقام عبد الله فخرج فقال أبو مسعود الأنصاري: هذا أعلم من بقي بما أنزل على محمد (ص) ". ونقرأ: " عن عبد الله بن مسعود قال: أخذت من فم رسول الله (ص) سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد.". وأيضاً: " مسروق؛ قال: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله (ص): علي، وعمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري ". وقيل أيضاً: " كان مهاجر عبد الله بن مسعود إلى حمص فحدره عمر إلى الكوفة، وكتب إليهم: والله الذي لا إله إلا هو لقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي فخذوا عنه". وفي تاريخ الإسلام للذهبي ( 432 ): "كتب عمر إلى أهل الكوفة: إنني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً، وابن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله (ص) من أهل بدر، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما، فقد آثرتكم بعبد الله على نفسي". بعودة إلى أنساب الأشراف؛ نقرأ: "وبعث عمر عبد الله بن مسعود على قضاء أهل الكوفة وبيت مالهم، وفرض له ولعمّار ولعثمان بن حنيف شاة: شطرها وسواقطها لعمار ولابن مسعود، ولعثمان الشطر الآخر". ":كان ابن مسعود يوافي عمر في كل موسم فيعرض عليه ما كان فيه فما رضيه أقام عليه وما نهاه عنه تركه. وجاء قوم فشكوه فلم يحفل بشكيتهم". "عبد الرحمن بن يزيد قال: كان ابن مسعود يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن لا يخطئ بألف ولا واو". ( 1518 ).
في ربيع الأبرار، قال الزمخشري: "استمع عليه الصلاة والسلام ومعه العمران إلى ابن مسعود فقال: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".
في تاريخ الإسلام للذهبي، يقال: "عن علي؛ قال: قال رسول الله (ص) : "لو كنت مؤمراً أحد عن غير مشورة لأمرت عليهم ابن أم عبيد". وفيه أيضاً: "عن حذيفة قال: قال رسول الله (ص) : "اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدى عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد". حسنه الترمذي. لكن لفظه: "وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه". وقال أيضاً: " قال: قال رسول الله (ص) : "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد؛ وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه النبي (ص) في هديه وله وسمته. وقال أبو إسحاق السبيعي: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: قلنا لحذيفة: أخبرنا برجل قريب السمت والدل برسول الله حتى نلزمه، قال: ما أعلم أحداً أقرب سمتاً ولا هدياً ولا دلاً من رسول الله (ص) حتى يواريه جدار بيته من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد (ص) أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله زلفة "(432). في المرجع السابق، نقرأ أيضاً: "وقال عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله (ص) يقول: "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى حذيفة". وقال مسروق، عن عبد الله قال: ما من آية إلا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته"( 432). وفيه أيضاً: "قال أبو وائل: إني لجالس مع عمر، إذ جاء ابن مسعود، فكاد الجلوس يوازونه من قصره -يعني وهو قائم- فضحك عمر حين رآه، وجعل يكلم عمر ويضاحكه وهو قائم عليه، ثم ولى فأتبعه عمر بصرة حتى توارى فقال: كنيف مليء علماً. وقال الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي موسر أنه قال: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم، يعني ابن مسعود. وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة بن عبد الله: سمعت أبا موسى يقول: مجلس كنت أجالسه ابن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة. وقال الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير قال: جاء نعي عبد الله إلى أبي الدرداء فقال: ما ترك بعده مثله.وقال مسروق: انتهى علم الصحابة إلى علي وابن مسعود". (432).
جمع المصاحف:
تتضارب الروايات كالعادة حول الأسباب التي أدّت بالجهات الرسميّة، ممثلة بالخلفاء، إلى الطلب من الصحابة الأقرب إلى النبي بأن يجمعوا المصاحف ويدونوها. لكن ثمة من يرى أن هذا الجمع بدأ مع النبي ذاته. يقول الرافعي في تاريخ آداب العرب: "وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من القرآن ابتداء من أنفسهم، أو بأمر من النبي (ص) فيخطونه على ما اتفق لهم يومئذ من العسب والكرانيف واللخّاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع من الشاة والإبل، وكل ما أصابوا من مثلها مما يصلح لغرضهم، يكتب كلّ منهم ما تيسر له أو يسرته أحواله. ولكن مما ليس فيه ريب أن منهم قوماً جمعوا القرآن كله لذلك العهد، وقد اختلفوا في تعيينهم، بيد أنهم أجمعوا على نفر، منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وهؤلاء كانوا مادة هذا الأمر من بعد فإن المصاحف التي اختصت بالثقة كانت ثلاثة: مصحف ابن مسعود، ومصحف أبيّ، ومصحف زيد، وكلهم قرأ القرآن وعرضه على النبي (ص) ، فأما ابن مسعود فقرأ بمكة وعرض هناك" (143).
في محاضرات الأدباء للأصفهاني، نقرأ شيئاً آخر؛ إذ يقال: " كان رسول الله (ص) إذا نزلت سورة؛ قال: ضعوا هذه في الموضع الذي ذكر فيه كذا. وروي أن عمر (رض) كان قد جمع القرآن في مصحف كان عند حفصة، وهو الذي أرسل مروان فيه وهو والي المدينة إلى عبد الله بن عمر يوم ماتت حفصة، فأمر بإحراقه مخافة الاختلاف. وقال أبو بكر: إن عمر لما رأى القتل قد استعر بقراء القرآن يوم اليمامة؛ قال: إني لأخشى أن يذهب قرآن كثير، وإني أرى أن يجمع القرآن، فقلت: كيف أفعل ما لم يفعله الرسول (ص) ؟ فقال: إنه لخير، فشرح الله صدري ففعلت. وقيل: أول من جمع القرآن بين لوحين أبو بكر (رض). وقال زيد بن ثابت: دعاني أبو بكر وقال: إنك رجل شاب وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (ص) فاجمع القرآن واكتبه؛ ففعلت. وقيل: أحرق عثمان (رض) مصحف ابن مسعود وأن ابن مسعود كان يقول: لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم كذلك. وأحرق مروان مصحف عمر (رض) . وقيل: القرآن ثلاثمائة ألف حرف وواحد وعشرون حرفاً، وهو ستة آلاف وستمائة وتسع وتسعون آية" (510). موضوعة مصحف حفصة تؤكدها مراجع أخرى؛ منها، تاريخ المدينة المنورة لابن شبة، حيث يقال: "لما تُوُفِّيَت حفصةُ أرسل مَرْوَان إلى ابن عمرَ (رض) بعزيمة ليُرْسِلَنَّ بها، فساعةَ رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابنُ عمر (رض) فشَقَّقَها ومزَّقها مخافةَ أن يكون في شيء من ذلك خلافٌ لما نَسَخَ عثمانُ (رض) ".( 295 ). إذن، الملفت هنا هو حرق مصحف حفصة، وهو ما سنقدّم دراسة عنه ومقاطع من آياته المخالفة لمصحف زيد- عثمان في حلقة لاحقة.
إذن، بدأت الفكرة مع عمر بن الخطّاب بعد موقعة اليمامة وموت كثير من حفظة القرآن، الذين لا نعرف إن كان ماتت معهم أيضاً سور لم يعرفها غيرهم. لكن ما هو السبب المباشر الذي أدّى بعثمان بن عفّان إلى القيام بتحريره الرسمي للنص القرآني الذي عرف من ثم بمصحف عثمان؟ ولماذا أراد عثمان فرض نص بعينه على المسلمين، على اختلاف أمصارهم؟ في أنساب الأشراف، نقرأ: "وصرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان، فأقام حتى قفل حذيفة ثم رجعا. فقال له حذيفة: إني سمعت في سفرتي هذه أمراً لئن ترك الناس ليضلن القرآن ثم لا يقومون عليه أبداً، قال: رأيت أمداد أهل الشام حين قدموا علينا، فرأيت أناساً من أهل حمص يزعمون لأناس من أهل الكوفة أنهم أصوب قراءة منهم، وأن المقداد أخذها من رسول الله (ص) ، ويقول الكوفيون مثل ذلك، ورأيت من أهل دمشق قوماً يقولون لهؤلاء: نحن أصوب منكم قراءة وقرآن، ويقول هؤلاء لهم في مثل ذلك. فلما رجع إلى الكوفة دخل المسجد فحذر الناس مما سمع في غزاته، فساعده على ذلك أصحاب رسول الله (ص) ومن أخذ عنهم وعامة التابعين، وقال له قوم ممن قرأ على عبد الله: وما تنكر؟ ألسنا نقرأ على قراءة ابن أم عبد ؟ وأهل البصرة يقرؤون على قراءة أبي موسى ويسمونها لباب الفؤاد، وأهل مصر يقرؤون على قراءة المقداد وسالم؟ فغضب حذيفة من ذلك وأصحابه وأولئك التابعون، وقالوا: إنما أنتم أعراب، وإنما بعث عبد الله إليكم ولم يبعث إلى من هو أعلم منه، فاسكتوا فإنكم على خطأ. وقال حذيفة: والله لئن عشت حتى آتي أمير المؤمنين لأشكونّ إليه ذلك، ولأشيرنّ عليه أن يحول بينهم وبين ذلك حتى ترجعوا إلى جماعة المسلمين والذي عليه أصحاب رسول الله (ص) بالمدينة. وقال الناس مثل ذلك، فقال عبد الله: والله إذاً ليصلينّ الله وجهك نار جهنم. فقال سعيد بن العاص: أعلى الله تألى والصواب مع صاحبك؟ فغضب سعيد وقام، وغضب ابن مسعود فقام، فغضب القوم فتفرقوا، وغضب حذيفة فرحل إلى عثمان فأخبره بالذي حدث في نفسه من تكذيب بعضهم بعضاً بما يقرأ، ويقول: أنا النذير العريان فأدركوا. فجمع عثمان الصحابة، وأقام حذيفة فيهم بالذي رأى وسمع، فأعظموا ذلك، ورأوا جميعاً مثل الذي رأى، قالوا: إن يتركوا ويمضي هذا القرن لا يعرف القرآن. فسأل عثمان: ما لباب الفؤاد؟ فقيل: مصحف كتبه أبو موسى، وكان قرأ على رجال كثير ممن لم يكن جمع على النبي (ص) . وسأل عن مصحف ابن مسعود فقيل له: قرأ على مجمع بن جارية وخباب بن الأرت، وجمع القرآن بالكوفة، فكتب مصحفاً وسأل عن المقداد فقيل له: جمع القرآن بالشام، فلم يكونوا قرؤوا على النبي (ص) إنما جمعوا القرآن في أمصارهم، فاكتتب المصاحف وهو بالمدينة، وفيها الذين قرؤوا القرآن على النبي (ص) وبثها في الأمصار، وأمر الناس أن يعمدوا إليها وأن يدعوا ما يعلم في الأمصار. فكل الناس عرف فضل ذلك، أجمعوا عليه وتركوا ما سواه إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن قراء قراءة عبد الله نزوا في ذلك حتى كادوا يتفضلون على أصحاب النبي (ص) ، وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود فقال: ولا كل هذا، إنكم قد سبقتم سبقاً بيناً، فاربعوا على ظلعكم. ولما قدم المصحف الذي بعث به عثمان على سعيد، وأجمع عليه الناس، وفرح به أصحاب النبي (ص) بعث سعيد إلى ابن مسعود يأمره أن يدفع إليه مصحفه، فقال: هذا مصحفي، تستطيع أن تأخذ ما في قلبي؟ فقال له سعيد: يا عبد الله، ما أنا عليك بمسيطر، إن شئت تابعت أهل دار الهجرة وجماعة المسلمين، وإن شئت فارقتهم، وأنت أعلم.قال مصعب بن سعد: قام عثمان فخطب الناس فقال: أيها الناس، عهدكم بنبيكم (ص) منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون قراءة أبي وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك، فأعزم على رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم: أسمعت رسول الله (ص)، وهو أمله عليك ؟ فيقول: نعم. فلما فرغ من ذلك عثمان قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله (ص) زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال: عثمان: فليمل سعيد وليكتب زيد، فكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد (ص) يقول: قد أحسن" (2199).
في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة؛ يقال: "أن حذيفة بن اليمان (رض) قدم من غزوة غزاها بفرج أرمينية فحضرها أهلُ العراق وأهلُ الشام، فإذا أهلُ العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود ويأتون بما لم يسمع أهل الشام ويقرأُ أهل الشام، بقراءة أبي بن كَعْب، ويأْتون بما لم يسمع أهلُ العراق، فيكفرهم أهل العراق. قال: فأمرني عثمان (رض) أن أكتب له مصحفاً فكتبتُه. فلما فرغت منه عَرَضَه " ( 291 ).
في البداية والنهاية نجد المضمون ذاته بصيغة أخرى: "ومن مناقبه (عثمان بن عفّان) الكبار وحسناته العظيمة: أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على الفرضة الأخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله (ص) في آخر سني حياته. وكان سبب ذلك: أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم يسوغان القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خطّأ الآخر أو كفره. فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم. وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة ودفع الاختلاف، فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت يجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر. فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعى بها عثمان، وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب، وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش. فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، بعث إلى البصرة مصحفاً، وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفاً، إلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفاً. ويقال لهذه المصاحف: الأئمة، وليست كلها بخط عثمان بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت. وإنما يقال لها المصاحف: العثمانية، نسبة إلى أمره وزمانه وإمارته، كما يقال: دينار هرقلي، أي: ضرب في زمانه ودولته. قال الواقدي: … عن أبي هريرة قال: لما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووفقت، أشهد لسمعت رسول الله (ص) يقول: إن أشد أمتي حبَّاً لي، قوم يأتون من بعدي يؤمنون ولم يروني، يعملون ما في الورق المعلق. فقلت: أي ورق؟ حتى رأيت المصاحف، قال: فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف، وقال: والله ما علمت أنك لتحبس علينا حديث نبينا (ص) . ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه، لئلا يقع بسببه اختلاف. فقال أبو بكر بن أبي داود في "كتاب المصاحف":.. عن سويد بن غفلة. قال: قال لي علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته… سويد بن غفلة قال: قال علي: أيها الناس! إياكم والغلو في عثمان، تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأٍ من أصحاب محمد (ص) ، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل. وقد رُوي عن ابن مسعود: أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). فكتب إليه عثمان (رض) يدعوه إلى إتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة (رض) أجمعين. وقد قال أبو إسحاق: عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عبد الله بن مسعود دخل مسجد منى فقال: كم صلى أمير المؤمنين الظهر ؟. قالوا: أربعاً. فصلى ابن مسعود أربعاً. فقالوا: ألم تحدثنا أن رسول الله (ص) وأبا بكر وعمر صلوا ركعتين ؟" ( 2795 ).
يخبرنا اليعقوبي في تاريخه تفاصيل إضافيّة: "وجمع عثمان القرآن وألفه، وصير الطوال مع الطوال، والقصار مع القصار من السور، وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت، ثم سلقها بالماء الحار والخل، وقيل أحرقها، فلم يبق مصحف إلا فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود. وكان ابن مسعود بالكوفة، فامتنع أن يدفع مصحفة إلى عبد الله بن عامر، وكتب إليه عثمان: أن أشخصه، إنه لم يكن هذا الدين خبالاً وهذه الأمة فساداً. فدخل المسجد وعثمان يخطب، فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء، فكلمه ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان، فجزّ برجله حتى كُسر له ضلعان، فتكلمت عائشة، وقالت قولاً كثيراً، وبعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى الكوفة، ومصحف إلى البصرة، ومصحف إلى المدينة، ومصحف إلى مكة، ومصحف إلى مصر، ومصحف إلى الشام، ومصحف إلى البحرين، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى الجزيرة، وأمر الناس أن يقرؤوا على نسخة واحدة. وكان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون قرآن آل فلان، فأراد أن يكون نسخة واحدة، وقيل: إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه، فلما بلغه أنه يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا.
وقيل: كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان، واعتلّ ابن مسعود، فأتاه عثمان يعوده، فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال: ذكرت الذي فعلته بي، أنك أمرت بي فوطئ جوفي، فلم أعقل صلاة الظهر، ولا العصر، ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك! قال: ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: فهذا عطاؤك، فخذه. قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا غني عنه؟ لا حاجة لي به، فانصرف. فأقام ابن مسعود مغاضباً لعثمان حتى توفّي، وصلى عليه عمار بن ياسر، وكان عثمان غائباً فستر أمره. فلما انصرف رأى عثمان القبر، فقال: قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود. قال: فكيف دفن قبل أن أعلم؟ فقالوا: ولى أمره عمار بن ياسر، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات المقداد، فصلى عليه عمار، وكان أوصى إليه، ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب عثمان على عمار، وقال: ويلي على ابن السوداء! أما لقد كنت به عليماً" (174).
في لباب الأنساب والألقاب يقال نقلاً عن الشعبي: "لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء من الصحابة غير عثمان، ولقد فارق علي الدنيا وما جمعه. وصح من وجوه، أن عثمان قرأ القرآن كله في ركعة. وقال أنس: إن حذيفة قدم على عثمان، وكان يغزو مع أهل العراق قبل أرمينية، فاجتمع في ذلك الغزو أهل الشام، وأهل العراق، فتنازعوا في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما يكره، فركب حتى أتى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى في الكتب. ففزع لذلك عثمان، فأرسل إلى حفصة أم المؤمنين: أن أرسلي إلي بالصحف التي جمع فيها القرآن، فأرسلت إليه بها، فأمر زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن ينسخوها في المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن إنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى كتبت المصاحف، ثم رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل إليهم به، فذلك زمان حرقت فيه المصاحف بالنار" ( 452).
في تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة تختلف تماماً التفاصيل في السبب الذي أدّى بعثمان لأن يحرق المصاحف ويعتمد مصحفاً بعينه، بما في ذلك النص الذي أوردناه من قبل: "عن أبي محمد القرشي: أن عثمان بن عفان (رض) كتبَ إلى الأمصار: أما بعد فإن نفراً من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القراَن، فاختلفوا اختلافاً شديداً فقال بعضهم قرأتُ على أبي الدرداء، وقال بعضهم قرأتُ على حرفِ عبد الله بن مسعود، وقال بعضهم قرأت على حرف عبد الله بن قيس، فلما سمعتُ اختلافهم في القراَن والعهدُ برسول اللّه (ص) حديث ورأيت أمراً منكراً، فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن، وخشيتُ أن يختلفوا في دينهم بعد ذَهَابِ من بقي من أصحاب رسول الله (ص) الذين قرؤوا القراَن على عَهْده وسَمِعوه من فِيه، كما اختلفَت النصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى ابن مريم، وأحببت أن ندارك من ذلك، فأرْسلت إلى عائشة أم المؤمنين (رض) أن ترسل إليّ بالأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عَنْ فَم رسول الله (ص) حين أوْحاه الله إلى جبريل، وأوحاهُ جبريلُ إلى محمد، وأنزله عليه، وإذ القَرآنُ غضٌ، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك، ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس، وكان زيد بن ثابت أحفظنا للقرآن، ثم دعوت نفراً من كتاب أهل المدينة وذوي عقولهم، منهم نافع بن طَرِيف وعبدُ الله بن الوليد الخزاعي وعبد الرحمن بن أبي لُبَابَة فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأدم أربعة مصاحف وأن يَتَحَفَّظُوا. حدثنا محمد بن الفضل عارم قال، حدثنا القاسم بن الفضل قال، حدثنا عمرو بن مرة الجملي قال: استأْذن رَجُلٌ على ابن مسعود، (رض) فقال الآذن: إن القوم…، والأشعري وإذا حذيفة يقول لهم: أما إنكما إن شئتما أقمتما هذا الكتاب على حرف واحد فإني قد خشيت أن يتهوّن الناس فيه تهوّن أهل الكتاب، أما أنت يا أبو موسى فيطيعك أهل اليمن، وأما أنت يا ابن مسعود فيطيعك الناسُ. قال ابن مسعود: لو أني أعلم أن أحداً من الناس أحفظُ مني لشدَدْتُ رَحْلي براحلتي حتى أُنِيخ عليه، قال: فكان الناس يرون أن حُذيفةَ (رض) ممَن عَمِلَ فيه حتى أتى على حرف واحد. حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا جعفر بن بُرقان قال، حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي قال: أتيت دارَ أبي موسى الأشعري فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجّار فقلتُ: هؤلاء والله الذين أريد، فأخذت أرتقي لهم فإذا غلامٌ على الدرجة فمنعني أن أرتقي إليهم فنازعته حتى التَفتَ إليَّ بعضُهم فأتيتهم حتى جَلسْتُ إليهم فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان (رض) فأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه. فقال أبو موسى: ما وجدتم قي مصحفي هذا مِنْ زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نُقصان فاكْتُبوا فيه. فقال حذيفة (رض) : فكيف بما صنعنا، واللّه ما أحدٌ من أهل البلد يَرْغَب عن قراءة هذا الشيخ. يَعْني ابن مسعود، ولا أحد من أهل اليَمَن يَرْغَبُ عن قراءة هذا الآخر. يعني أبا موسى. وكان حذيفة هو الذي أشارَ على عثمان (رض) أن يَجْمعَ المصاحف على مُصْحَفِ واحد. حدثنا إبراهيم بن المنذر قال، حدثنا عبد اللّه بن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث، أن بكيراً حدث: أن ناساً كانوا بالعِرَاق يسأل أحدهم عن الآية فإذا قرأها قال: فإني أكفر بهذه، ففشا ذلك في الناس، واختلفوا في القراءة، فكلَم عثمان بن عفان (رض) في ذلك، فأمر بِجَمْعِ المصاحف فأحرقها، وكتب مَصَاحِف ثم بَثها في الأجْنَاد. حدثنا قال ابن وهب، أخبرني عمر بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حَاطِب قال: قامَ عثمان بن عفان (رض) فقال: مَنْ كان عنده من كتاب الله شيء فليأْتنا به، وكان لا يَقْبَل من ذلك شَيْئاً حتى يَشْهَد عليه شاهدان، فجاء خُزَيْمَة بن ثابت فقال: إني قد رأيْتُكُم تَرَكْتُم آيتَين من كتاب اللّه لم تكتبوهُما. قال: وما هما؟ قال: تلقَّيْتُ من رسول الله (ص) : "لَقَدْ جَاءَكُمْ رسولٌ مِنْ أنْفُسِكُم" إلى آخر السورة. قال عثمان: وأنا أشهد إنهما من عند اللّه، فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال: اِختم بهما. قال: فختم بهما" ( 293 ).
عبد الله بن مسعود وزيد بن حارثة: معركة المصاحف!
بعودة إلى آرثر جفري، نتابع التالي، (لا نمتلك أدنى فكرة حول الزمن الذي ابتدأ فيه يجمع مصحفه. لكن على ما يبدو أنه بدأ بجمع مواده والنبي على قيد الحياة وجعلها في صيغة مصحف حين استقرّ في الكوفة وراح ينظر إليه على أنه مرجع في القضايا القرآنيّة. على أية حال، يمكن أن نجد مصحفه قيد الاستعمال هناك حيث كان الكوفيّون يتبعونه قبل أن يقوم عثمان بن عفّان بتحريره الرسمي للقرآن. وحين أرسل عثمان إلى الكوفة النسخة الرسميّة من نصه المعياري وأمر بحرق كل النسخ الأخرى، رفض ابن مسعود تسليم نسخته، حيث أعرب عن سخطه من تفضيل نص لمدع شاب مثل زيد بن ثابت على نصّه، وهو الذي كان مسلماً حين كان زيد في صلب مشرك (ابن أبي داوود، 13). لكن على ما يبدو كان ثمة اختلاف كبير في الرأي في الكوفة بشأن مسألة المصحفين، فقد قبل بعضهم بالمصحف الجديد الذي أرسله عثمان، لكن عدداً كبيراً حافظ على تمسّكه بمصحف ابن مسعود (كامل ابن الأثير (تحقيق تورنبرغ) III، 86، 87 )، الذي كان يعتبر وقتها مصحف الكوفة. ويمكننا الاستدلال على قوة مصحف ابن مسعود في الكوفة عبر مجموعة من المصاحف الثانوية التي وصلت بعض معلومات منها إلينا والتي تتبع نص ابن مسعود. ومن شعبيته في الكوفة صار مفضّلاً في الدوائر الشيعيّة، مع أن المرء لا يميل لأن يقبل بكل القراءات الشيعيّة التي تنسب إلى مصحفه على أنها أصليّة، ولا تلك الموجودة في المراجع السنيّة لصالح أهل البيت) (السابق).
نحاول هنا ما أمكن توثيق ما أورده جفري من إشارات سريعة غير موثقة، حول مسألة موقف ابن مسعود من عثمان وزيد، ونظرته إلى ذاته كمرجع قرآني بلا منازع. قال ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق:"خطب ابن مسعود على المنبر؛ فقال: من يغلل يأت بما غل يوم القيامة، غلوا مصاحفكم، كيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله (ص) بضعاً وسبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما نزل من القرآن إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بأكبركم، ولو أعلم مكاناً تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته. قال أبو وائل: فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق فما أحد ينكر ما قال " ( 1899 ). وفي نص الذهبي: "أن ابن مسعود كره لزيد نسخ المصاحف وقال: يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاها رجل غيري، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب أبيه، يا أهل الكوفة: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها" (432). وفي النص ذاته: "لما جعل عثمان زيد بن ثابت على كتابة المصاحف، وتطلب سائر مصاحف الصحابة ليغسلها أو يحرقها، ففعل ذلك ليجمع الأمة على مصحف واحد.قال أبو وائل: خطب ابن مسعود وقال: غلوا مصاحفكم، كيف يأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله (ص) بضعاً وسبعين سورة، وإن زيداً ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان" (432). وفي مختصر تاريخ دمشق لابن منظور تفاصيل إضافيّة: "عن خمير بن مالك؛ قال: سمعت ابن مسعود يقول: إني غال مصحفي، فمن استطاع أن يغل مصحفاً فليغلل، فإن الله يقول:"من يغلل يأت بما غل يوم القيامة"…وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، فقال: يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ كتاب المصاحف، ويولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب أبيه كافر- يريد زيد بن ثابت- ولذلك قال عبد الله: يا أهل الكوفة-أو يا أهل العراق- اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله عز وجل يقول:"ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" فالقوا الله بالمصاحف. قال الزهري: فبلغني أن ذلك كره من مقالة ابن مسعود كرهه رجال من أفاضل أصحاب النبي (ص) . قال ابن أبي داود: عبد الله بن مسعود بدري وزيد ليس هو بدرياً وإنما ولوه لأنه كاتب رسول الله (ص). وعن علقمة قال: قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء فقال: كنا نعد عبد الله حناناً فما باله يواثب الأمراء؟! وعن ابن عباس قال: أي القراءتين تعدون أول؟ قال: قلنا: قراءة عبد الله. قال: لا، إن رسول الله (ص) كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه، فإنه عرض عليه مرتين بحضرة عبد الله، فشهد ما نسخ منه وما بدل. قال: وإنما شق ذلك على ابن مسعود لأنه عدل عنه مع فضله وسنه وفوض ذلك إلى من هو بمنزلة ابنه، وإنما ولى عثمان زيد بن ثابت لحضوره وغيبة عبد الله، ولأنه كان يكتب الوحي لرسول الله (ص) وكتب المصحف في عهد أبي بكر الصديق. وقد روي عن ابن مسعود أنه رضي بذلك وتابع ووافق رأي عثمان في ذلك. وراجع فيما روي عن عبد الله بن مسعود أنه أتاه ناس من أهل الكوفة فقرأ عليهم السلام، وأمرهم بتقوى الله عز وجل وألا يختلفوا في القرآن ولا يتنازعوا فيه، فإنه لا يختلف ولا ينسى ولا ينفذ لكثرة الرد، أفلا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة حدودها وفرائضها وأمر الله فيها، ولو كان شيء من الحرفين يأتي بشيء ينهى عنه الآخر كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامع لذلك كله، وإني لأرجو أن يكون قد أصبح فيكم اليوم من الفقه والعلم من خير ما في الناس، ولو أعلم أحداً تبلغنيه الإبل هو أعلم بما أنزل على لقصدته حتى أزداد علماً إلى علمي، فقد علمت أن رسول الله (ص) كان يعرض عليه القرآن كل عام مرة فعرض عام توفي فيه مرتين، فكنت إذا قرأت عليه أخبرني أني محسن، فمن قرأ على قراءتي فلا يدعها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء هذه الحروف فلا يدعه رغبة عنه، وإن من جحد بحرف منه حجد به كله" (1899).
في تاريخ المدينة المنورة نجد تفاصيل أخرى حول موقف عبد الله بن مسعود من تولية عثمان زيد بن حارثة في مسألة وضع نص معياري للقرآن: "أن ابن مسعود (رض) كَرِه أن وَلي زيد نسخَ كتاب المصاحف، وقال: أي مَعْشر المسلمين أأعزَل عن نسخِ كتاب المصاحف فيُولأَها رجل، واللّه لقد أسلمت وأنه لفي صلب رجل كافر. وعند ذلك قال عبد الله: يا أهل العراق غلوا المصاحف والقوا الله بها فإنه "مَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيَامَة"، فالقوا الله بالمصاحف. قال الزهري: قال ابن مسعود وإني غال مصحَفي، فمن استطاع أن يَغُل مصحفه فليفعل… بعث عثمان (رض) إلى عبد الله أن يَدْفَع المصحفَ إليه. قال: ولمَ ؟ قال: لأنه كتب القراَن على حرفِ زَيْد. قال: أما أن أعْطِيَهُ المصحف فلن أُعْطِيَكُمُوه ومن استطاع أن يَغُلّ شيئاً فليفعل، والله لقد قرأتُ مِن في رسول اللّه (ص) سبعين سورة، وإن زيداً لذو ذؤابتين يلعب بالمدينة… لمّا أُمِرَ بالمصاحف أن تُغَيَّر ساء ذلك عبد الله بن مسعود (رض) فقال: من استطاع منكم أن يَغُلّ مصحفاً فليَفْعَل فإن من غَلّ شيئاً جاء بما غَلّ يومَ القيامة، ثم قال: لقد قرأْتُ القرآن من في رسول الله (ص) سبعين سورة، وزيد صبي، أَفأَتْرُكُ ما أخذتُ مِن في رسول الله (ص) … عن حمزة بن عبد الله قال: بلغني أنه قيل لعبد الله بن مسعود (رض) : ما لك لا تقرأ على قراءة فُلان؟ فقال: لقد قرأتُ على رسول الله (ص) سبعين سورة فقال لي: لَقَدْ أحْسَنْت، وإن الذي يسألون أنْ أقْرَأَ على قِراءتِه في صلْب رَجُل كافر" (295).
في كتابنا، يوم انحدر الجمل من السقيفة، توقفنا مطولا عند الأخطاء الفاحشة للخليفة الثالث، عثمان بن عفّان، والتي أوصلت في النهاية إلى سلسلة كوارث كان أوجها سقوط الحكم الراشدي وقيام نظام بني أميّة الملكي. من تلك الأخطاء التي لا تغتفر ضربه عبد الله بم مسعود لرفضه تسليم مصحفه لحرقه من أجل تعميم نص معياري فرضه عثمان بقوة السلطة. بل يمكن أن نجد في أكثر من مرجع اعترافاً لعثمان ذاته بأن ما فعله مع ابن مسعود كان خطأ لا يغتفر. ورد في سمط النجوم العوالي للعصامي عن عثمان قوله حول أخطائه: "وأما الخامس وهو ضربي لابن مسعود، فإنه إنما كان للأدب حين امتنع من إتيانه بالمصحف ليجتمع الناس على مصحف واحد؛ فكان لي ذلك؛ فأحرقت مصحفه وكان من أكبر المصالح؛ فإنه لو بقي في أيدي الناس أدى ذلك إلى فتنة كبيرة في الدين؛ لكثرة ما فيه من الشذوذ، ولحذفه المعوذتين مع شهرتهما - وأما هجري له فلم تزل هذه سيمة الخلفاء قبلي" (467).
لكن الصحابة، كما نقل لنا ابن شيبة في تاريخ المدينة المنورة، اختلفت مواقفهم من مسألة فرض عثمان لنص بعينه وإغفاله – أو حرقه – لباقي النصوص: "عن مصعب بن سعد قال: أدركتُ أصحاب رسول الله (ص) حين شَقق عثمان (رض) المصاحف، فأعجبهم ذلك؛ أو قال: لم يُنكِرْ ذلك منهم أحد. (أو): فما رأيت أحداً منهم عَابَ ما صنع عثمان (رض) في المصاحف. (أو): سمعتُ رجالاً من أصحاب النبي (ص) يقولون لَقَدْ أحْسَن. (بالمقابل، ينقل النص نفسه) عن أبي مجلذ قال: عابوا على عثمان (رض) تَمزيقَ المصاحف، وصدَقُوه بما كتب لهم. (أو): عن أبي مجلذ قال: عابوا على عثمان رضي الله عه تشقيق المصاحف وقد آَمنوا بما كتب لهم انظر إلى حمقهم!! (وفي نص ثالث): أن عثمان (رض) لَمَا جمع القراَن في مصحف واحد، جمَع الصحف والعُسُب التيّ كان فيها القرآن فجعلها في صندوق واحد وكَره أن يحرق القرآن أو يشققه" (295).
مصحف ابن مسعود: الآيات الناقصة وترتيب السور واختلاف أسمائها!
بعودة إلى نص جفري آنف الذكر؛ نقول : (لقد عُرف جيداً منذ بدايات الإسلام أن إحدى خصائص مصحف ابن مسعود افتقاده السور الأولى والـ113 والـ 114، أي الفاتحة، الصلاة التي تفتتح الكتاب، والمعوذتين، أي اللتين ينتهي بهما (أنظر: نولدكه- شفالي، I، 108؛ على ما يبدو أن الفاتحة أضيفت لبعض النسخ التي حملت اسم ابن مسعود؛ قارن الإتقان، 152، 187؛ وابن النديم، الفهرست، 26 ). الباحثون المعاصرون يعتقدون، بناء على أسس مغايرة بالكامل، أن هذه الآيات لم تكن في الأصل جزءاً من القرآن لكنها أضيفت لاحقاً لغايات ليتورجيّة. والدليل على أن ابن مسعود كان يعرف أن هذه المقاطع إنما تستعمل ليتورجياً يكمن في حقيقة أنها محفوظة لدينا في حواش من كلمات ميزها فيها عن الطريقة العادية لقراءتها.
السمة الأخرى التي نعرفها عن مصحف ابن مسعود أيضاً هي أن نظام ترتيب السور في تحريره يختلف كثيراً عن ذلك الموجود في مصحف عثمان. وقد حفظت لنا قائمتان تمدانا بمنظومة السور، واللتان، مع ذلك، لا تتفقان بالكامل فيما بينهما. الأولى هي تلك التي يقدمها ابن النديم (337) (هذا التاريخ الذي يقال إنه أنهى فيه الفهرست؛ أما تاريخ وفاته فغير مؤكّد)، ص 26، (تحرير فلوغيل) نقلاً عن الفضل بن شاذان (قبل 280 )، وتسير كما يلي:
2- 4- 3- 7- 6- 5- 10- (في تاريخ الطبري I، 2963، يقال إن سورة يونس التي هي العاشرة في النسخ المعاصرة هي التاسعة كما هي الحال عليه هنا. يقول شفالي إن هنالك خطأ طباعيّاً في نص الطبري استبدل السابعة بالتاسعة، لكن باور يقف ضد هذا الرأي ZDMG,LXXV, 15 ) – 9- 16- 11- 12- 17- 21- 23- 26- 37- 33- 28- 24- 8- 19- 29- 30- 36- 25- 22 -13- 34- 35- 14- 47- 31 (نقرأ في النص، القمر، الذي هو عنوان السورة 54؛ لكن كون هذا يقدّم لاحقاً تحت عنوان اقتربت الساعة، يجب أن نصححه مع فلوغيل Anmerkungen 14 إلى لقمان، والذي يقول شفالي، إن الإتقان أكد عليه ) – 39- ( 40 إلى 46 ) (الحواميم تعني مجموعة من السور تبدأ بكلمة حم ومن دون أدنى شك ليست هنا غير عنوان تمهيدي لمجموعة من السور لمتعاقبة)- 40- 43- 41- 46- 45- 44- 48- 57- 59 (هذه السور التي أوصلت شفالي إلى نوع من الاضطراب وفلوغيل إلى نوع من التلغيز ليست غير جزء من عنوان السورة 59. هنالك مجموعة من السور بعنوان المسبحات، أي السور 57- 59- 61- 62- 64 )- 32- 50- 65- 49- 67- 64- 63- 62- 61- 72- 71- 58- 60- 66- 55- 53- 51- 52- (يقول الفهرست إن بعضهم يقدّم 52 على 51) 54- 69- 56- 68- 79- 70- 74- 73- 83- 80- 76- 75- 77- 78- 81- 82- 88- 87- 92- 89- 85- 84- 96- 90- 93- 94- 86- 100- 107- 101- 98- 91- 95- 104- 105- 106- 102- 97- 103- 110- 108- 109- 111- 112.
السور المفقودة هنا هي: 1- 15- 18- 20- 27- 42- 99- 113- 114. السور 1- 113 – 114 محذوفة من مصحفه كما رأينا للتو، لكن كنصوص بقراءات مختلفة للسور الأخرى، غير الأولى والثالثة عشرة والرابعة عشرة التي يتم حذفها هنا يمكن أن نجدها منقولة عنه المواد التي تم توليفها منها لا بد أنها كانت في مصحفه. والحقيقة أنه يمكننا أن نجدها كلها في قائمة سوره التي يقدّمها لنا الإتقان. وحين نفحص هذه السور المفقودة نكتشف أن الـ 15 هي الأخيرة في سلسة سور الر؛ 18 تأتي مباشرة قبل سورة كهيعص (19) ويمكن أن أن نرتاب أن لها علاقة ما بها ( Goossens, Der Islam, XIII, 211 )؛ 20 هي سورة طه الوحيدة؛ 27 هي سورة طس التي ترد بين سورتي حم، وهكذا يمكن للمرء أن يرتاب أن هنالك شيئاً يكمن خلف حذفها من الفهرست. مع ذلك، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحقيقة القائلة إن السور المحذوفة موجودة في قائمة الإتقان، وأن الفهرست ذاته يقول بوضوح إنه عدها 110 سور في حين لا توجد في القائمة غير 105، الاحتمال هو أن القائمة مدونة بشكل ناقص.
القائمة الثانية موجودة في الإتقان للسيوطي (نسخة كالكوتا، ص 151)، والذي يستشهد بنص لابن أشتة يرجع إلى جرير بن عبد الحميد (مات 188)، الذي كان يروي أحاديث عن الأعمش وآخرين من مدرسة ابن مسعود. هذه القائمة تسير كما يلي:
2- 4- 3- 7- 6- 5- 10- 9- 16- 11- 12- 18- 17- 21-20 - 23- 26- 37- 33- 28- 27 - 24- 8- 19- 29- 30- 36- 25- 22 -13- 34- 35- 14- 47- 31 – 39- 40- 43- 41-42 - 46- 45- 44- 48- 59- 32- 65- 49- 67- 64- 63- 62- 61- 72- 71- 58- 60- 66- 55- 53- 51- 52- 54- 56- 68- 79- 70- 74- 73- 83- 80- 76- 75- 77- 78- 81- 82- 88- 87- 92- 89- 85- 84- 96- 90- 93- 94- 86- 100- 107- 101- 98- 91- 95- 104- 105- 106- 102- 97-99- 103- 110- 108- 109- 111- 112- 94.
هنا نجد إلى جانب السور المتوقع أن تكون محذوفة، أي 1- 113- 114، سوراً أخرى محذوفة أيضاً هي 50- 57- 69، والتي لا يمكن أن نقدّم عذراً لحذفها غير القول إنها أسقطت بخطأ كتابي. والقائمتان تتطابقان بما يكفي بالنسبة لنا كي نأخذ السور المفقودة في هذه القائمة من القائمة الأخرى، ويمكن لنا التعامل معهما كقرائتين مختلفتين لنص مشترك بالنسبة لمنظومة السور في مصحف ابن مسعود ).
بعودة أخرى إلى المراجع الإسلامية البارزة؛ يمكن الاستشهاد بالشهرستاني في الملل والنحل، الذي كتب في المسألة؛ إن " طوائف من أصحاب نبيكم عليه السلام ومن تابعيهم الذين تعظمون وتأخذون دينكم عنهم قرؤوا القرآن بألفاظ زائدة ومبدلة لا تستحلون أنتم القراءة بها وإن مصحف عبد الله بن مسعود خلاف مصحفكم وأيضاً فإن طوائف من علمائكم الذين تعظمون وتأخذون عنهم دينكم يقولون إن عثمان بن عفان أبطل قراءات كثيرة صحيحة وأسقطها إذ كتب المصحف الذي جمعكم عليه وعلى حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن عندكم وأيضاً فإن الروافض يزعمون أن أصحاب نبيكم بدلوا القرآن وأسقطوا منه وزادوا فيه قال أبو محمد كل هذا لا متعلق لهم بشيء منه على ما نبين بما لا إشكال فيه على أحد من الناس " ( 175).
ويؤكّد الرافعي في تاريخ الأدب العربي على أنه "لم تكن المصاحف التي كتبت قبل مصحف عثمان على هذا الترتيب المعروف في السور وإلى اليوم. فإنما هو ترتيب عثمان! أما فيما وراء ذلك فقد رووا أن رسول الله (ص) كان إذا نزلت سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، فكان القرآن مرتب الآيات، غير أنه لم يكن مجموعاً بين دفتين، فلا يؤمن أن يضطرب نسق مجموعه في أيدي الناس باضطراب القطع التي كتب فيها تقديما وتأخيراً: ولم يلزم الناس القراءة يومئذ بتوالي السور، وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أو كتبها ثم خرج في سرية فنزلت سورة أخرى فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته، ويتبع ما فاته على حسب ما تسهل له أكثره أو أقله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم وتقديم المؤخر، فلما جمعه أبو بكر برأي عمر كتبوه على ما وقفهم عليه رسول الله (ص)، ثم كانوا في أيام عمر يكتبون بعض المصاحف منتسقة السور على ترتيب ابن مسعود، وترتيب أبيّ بن كعب، وكلاهما قد سرده ابن النديم في كتابه (الفهرست)، وقال ابن فارس: "إن السور في مصحف عليّ كانت مرتبة على النزول، فكان أوله سورة اقرأ باسم ربك، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم تبَّت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدنيّ، ولا حاجة بنا أن نتسع في استقصاء هذا الخلاف أما ترتيب مصحف عثمان فهو نسق زيد بن ثابت. وهو صاحب العرضة الأخيرة ولعله كان ترتيب مصحف أبي بكر أيضاً، لما مرّ في الرواية عن زيد من أنه قابل بين الاثنين معارضة، والله أعلم. ولم يكن بعد انتشار المصاحف العثمانية وانتساخها على هيئتها إلا أن استوثقت الأمة على ذلك بالطاعة وأحرق كل امرئ ما كان عنده مما يخالفها ترتيباً أو قراءة، وأطبق المسلمون على ذلك النسق وذلك الحرف، ثم أقبلوا يجدّون في إخراجها وانتساخها. ولقد روى المسعودي أنه رفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحو من خمسمائة مصحف، وهي الخدعة المشهورة التي أشار بها عمرو بن العاص في تلك الواقعة، ولم يكن بين جمع عثمان إلى يوم صفين إلا سبع سنوات. وهنا أمر لا مذهب لنا دون التنبيه عليه، وذلك أن جمع القرآن كان استقصاء لما كتب، واستيعاباً لما في الصدور، فكانوا لا يقبلون إلا بشهادة قد امتحنوها، أو حلف قد وثقوا من صاحبه، وإلا بعد العرض على من جمعوا وعرضوا على رسول الله (ص) . فإن الصحابة كانوا لا يحسنون التهجي، وقد يكتبون ما يقرؤون على وجه من وجوه الكتابة، أو يكتبون بحرف من القراءات، كالذي رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كنت عند عثمان (رض) وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها "لم يتسن" و"فأمهل الكافرين"، و"لا تبديل للخلق" قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب "خلق الله" ومحا "فأمهل" وكتب "فمهل" وكتب "يتسنه" ألحق فيها هاء والقراءة على هذا الرسم. فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول "إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملاً على ما وصفوا من كيفية جمعه، وهو باطل من الظن، لما علمته من أنباء حفظته الذي جمعوه وعرضوه، ثم لما رأيت من تثبتهم في ذلك حتى جمعت لهم الصحة من أطرافها، ثم لإجماع الجم الغفير من الصحابة على أن ما بين دفتي المصحف هو الذي تلقوه عن رسول الله (ص) لم يأته الباطن من بين يديه ولا من خلفه، ولا اقتطع منه الباطل شيئاً " ( 146 ).
هنا، صار من الضروري أن نورد نص ابن النديم كما جاء في الفهرست بالحرف: " قال الفضل بن شاذان وجدت في مصحف عبد الله بن مسعود تأليف سور القرآن على هذا الترتيب البقرة النساء آل عمران المص الأنعام المائدة يونس براءة النحل هود يوسف بني إسرائيل الأنبياء المؤمنون الشعراء الصافات الأحزاب القصص النور الأنفال مريم العنكبوت الروم يس الفرقان الحج الرعد سبأ المليكة إبراهيم ص الذي كفروا القمر الزمر الحواميم المسبحات حم المؤمن حم الزخرف السجدة الأحقاف الجاثية الدخان إنا فتحنا الحديد سبح الحشر تنزيل السجدة ق الطلاق الحجرات تبارك الذي بيده الملك التغابن المنافقون الجمعة الحواريون قل أوحي إنا أرسلنا نوحاً المجادلة الممتحنة يا أيها النبي لم تحرم الرحمن النجم الذاريات الطور اقتربت الساعة الحاقة إذا وقعت ن والقلم النازعات سأل سائل المدثر المزمل المطففين عبس هل أتى على الإنسان القيامة المرسلات عم يتساءلون إذا الشمس كورت إذا السماء انفطرت هل أتاك حديث الغاشية سبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى الفجر البروج انشقت اقرأ باسم ربك لا أقسم بهذا البلد والضحى ألم نشرح لك والسماء والطارق والعاديات أرأيت القارعة لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب الشمس وضحاها والتين ويل لكل همزة الفيل لإيلاف قريش التكاثر إنا أنزلناه والعصر إن الإنسان لفي خسر إذا جاء نصر الله إنا أعطيناك الكوثر قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب قل هو الله أحد الله الصمد فذلك مائة سورة وعشر سور وفي رواية أخرى الطور قبل الذاريات قال أبو شاذان قال ابن سيرين وكان عبد الله بن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه ولا فاتحة الكتاب وروى الفضل بإسناده عن الأعمش قال في قوله في قراءة عبد الله حم سق قال محمد بن إسحاق رأيت عدة مصاحف ذكر نساخها أنها مصحف بن مسعود ليس فيها مصحفان متفقان وأكثرها في رق كثير النسخ وقد رأيت مصحفاً قد كتب منذ مائتي سنة فيه فاتحة الكتاب والفضل بن شاذان أحد الأئمة في القرآن والروايات فلذلك ذكرنا ما قاله دون ما شهدناه " ( 15 ).
للسيوطي نص هام جداً في الإتقان في علوم القرآن، استشهد به جفري، نجد أنه من المفيد إيراده بالحرف هنا أيضاً: " قال ابن أشتة أيضاً: وأخبرنا أبو الحسن بن نافع أن أبا جعفر محمد بن عبد الحميد قال: تأليف مصحف عبد الله بن مسعود. الطوال: البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس. والمئين: براءة والنحل وهود ويوسف والكهف وبني إسرائيل والأنبياء وطه والمؤمنون والشعراء والصافات. والمثاني: الأحزاب والحج والقصص وطس النمل والنور والأنفال ومريم والعنكبوت والروم ويس والفرقان والحجر والرعد وسبأ والمالئة وإبراهيم وص والذين كفروا ولقمان والزمر والحواميم: حم والزخرف والسجدة وحمعسق والأحقاف والجاثية والدخان والممتحنات إنا فتحنا لك والحشر وتنزيل السجدة والطلاق ون والقلم والحجرات وتبارك والتغابن وإذا جاءك المنافقون والجمعة والصف وقل أوحى وإنا أرسلنا والمجادلة والممتحنة ويا أيها النبي لم تحرم. والمفصل: الرحمن والنجم والطور والذاريات واقتربت الساعة والواقعة والنازعات وسأل سائل والمدثر والمزمل والمطففين وعبس وهل أني والمرسلات والقيامة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت والغاشية وسبح والليل والفجر والبروج وإذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك والبلد والضحى والطارق والعاديات وأرأيت والقارعة ولم يكن والشمس وضحاها والتين وويل لكل همزة وألم تر كيف ولئيلاف قريش وأهاكم وإنا أنزلناه وإذا زلزلت والعصر وإذا جاء نصر الله والكوثر وقل يا أيها الكافرون وتبت وقل هو الله أحد وألم نشرح، وليس فيه الحمد ولا المعوذتان " ( 76 ). ويكمل السيوطي ؛ فيقول: "وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين، وفي مصحف أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين واللهم إنا نستعينك واللهم إياك نعبد وتركهن ابن مسعود" (76).
من ناحية أخرى، ورد في إعجاز القرآن للباقلاني، "فإن قيل لولا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن، وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هو من القرآن أم لا، ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره؛ وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط. وقد يجوز أن يكون شذ عن مصحفه لا لأنه نفاه من القرآن، بل عول على حفظ الكل إياه. على أن الذي يروونه خبر واحد لا يسكن إليه في مثل هذا ولا يعمل عليه، ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه وهذا نحو ما يذكره الجهال من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود وبين مصحف عثمان رحمة الله عليهما، ونحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة، كما يغلط الحافظ في حروف وينسى. وما لا نجيزه على الحفاظ، مما لم نجزه عليه، ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا، أمر يوجب التفكير والتضليل، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه ؟ وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة بالإجماع المتقرر، والاتفاق المعروف؟" ( 92 ). بالنسبة لاختلاف تسمية السور، يقول السيوطي "الطلاق تسمى سورة النساء القصرى، وكذا سماها ابن مسعود… تبارك تسمى سورة الملك. وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: هي في التوراة سورة الملك، وهي المانعة، تمنع من عذاب القبر… وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: كنا نسميها في عهد رسول الله (ص) المانعة " ( 63 ).
في أسرار ترتيب القرآن للسيوطي يطالعنا نص هام آخر، يظهر مدى الإرباك الذي رافق عملية ترتيب سور القرآن، والذي لعب الزمن وإرادة السلطات الدينية الدور الأوحد في إلقاء ستائر النسيان عليه؛ يقول السيوطي: "فانظر إلى ابن عباس (رض) ، كيف استشكل علي عثمان (رض) أمرين: وضع الأنفال وبراءة في أثناء السبع الطوال، مفصولاً بهما بين السادسة والسابعة، ووضع الأنفال وهي قصيرة مع السور الطويلة وانظر كيف أجاب عثمان (رض) أولاً بأنه لم يكن عنده في ذلك توقيف، فإِنه استند إلى اجتهاد، وأنه قرن بين الأنفال وبراءة لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على القتال، ونبذ العهود، وهذه وجه بين المناسبة جلى، فرضي الله عن الصحابة، ما أدق أفهامهم! ما أدق أفهامهم! وأجزل آراءهم! وأعظم أحلامهم! وأقول: يتم بيان مقصد عثمان (رض) في ذلك بأمور فتح الله بها: الأول: أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها، لكونها مشتملة على البسملة، فقدمها لتكون لفظة منها، وتكون براءة بخلوها منها كتتمتها وبقيتها، ولهذا قال جماعة من السلف: إن الأنفال وبراءة سورة واحدة، لا سورتان الثاني: أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول، فإنه ليس في القرآن بعد الأعراف أنسب ليونس طولاً منها، وذلك كاف في المناسبة الثالث: أنه خلَّل بالسورتين الأنفال وبراءة أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول، للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف، وإلى أن رسول الله (ص) قبض قبل أن يبين محلهما، فوضعا كالموضع المستعار بين السبع الطوال، بخلاف ما لو وضعتا بعد السبع الطوال، فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف، وترتيب السبع الطوال يرشد إلى دفع هذه الوهم فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله بها، ولا يغوص عليها إلا غواص الرابع: أنه لو أخرهما وقدم يونس، وأتى بعد براءة بهود، كما في مصحف أبي بن كعب، لمراعاة مناسبة السبع الطوال، وإيلاء بعضها بعضاً، لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن تولى بالسور الخمس التي بعدها، لما اشتركت فيه من الاشتمال على القصص، ومن الافتتاح بالذكر، وبذكر الكتاب، ومن كونها مكيات، ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار وبالتسمية باسم نبي، والرعد اسم ملك، وهو مناسب لأسماء الأنبياء فهذه سنة وجوه في مناسبة الاتصال بين يونس وما بعدها، وهي أكثر من ذلك الوجه السابق في تقديم يونس بعد الأعراف ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل، مع كونها أقصر منها ولو أخرت براءة عن هذه السور الست المناسبة جداً بطولها لجاءت بعد عشر سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر، فإنها ليست كبراءة في الطول ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرنا من تقديم الحجر على النحل لمناسبة ذوات (الر) قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبة البقرة، مع الافتتاح ب (الم)، وتوالى الطواسين والحواميم، وتوالى العنكبوت والروم والقمر والسجدة، لافتتاح كل بـ (الم)، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها هذا ما فتح الله به وأما ابن مسعود فقدم في مصحفه البقرة على النساء، وآل عمران، والأعراف، والأنعام، والمائدة، ويونس، فراعى الطوال، وقدم الأطوال فالأطول ثم ثنى بالمئين، فقدم براءة، ثم النحل، ثم هود، ثم يوسف، ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول، وذكر الأنفال بعد النور ووجه مناسبتها لها: أن كلا منهما مدنية، ومشتملة على أحكام، وأن في النور (وعَدَ اللَهُ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات ليستَخلِفنهم في الأَرض كما استخلف الذين مِن قبلِهِم) وفي الأنفال (واذكروا إِذ أَنتُم مُستَضعَفون في الأَرض تخافون) ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة، فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل، وذكر به في الثانية فتأمل " ( 10 ).
وفي صفوة الصفوة لابن الجوزي؛ يقال: "وسورة النساء في هذا الحديث مقدمة على آل عمران وكذلك هي في مصحف ابن مسعود"( 34 ).
مصحف ابن مسعود: الاختفاء المفاجئ؟
يبدو أن مصحف ابن مسعود استمر طويلاً بعد رحيل واضعه؛ يخبرنا ابن الجوزي في المنتظم أنه " في يوم الأحد عاشر رجب جرت فتنة بين أهل الكرخ والفقهاء بقطيعة الربيع وكان السبب أن بعض الهاشميين من أهل باب البصرة قصدوا أبا عبد الله محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم، وكان فقيه الشيعة في مسجده بدرب رياح وتعرض به تعرضاً امتعض منه أصحابه فثاروا واستنفروا أهل الكرخ، وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد بن الأكفاني وأبي حامد الأسفرايني فسبوهما وطلبوا الفقهاء ليواقعوا بهم ونشأت من ذلك فتنة عظيمة، واتفق أنه أحضر مصحفاً ذكر أنه مصحف ابن مسعود وهو يخالف المصاحف، فجمع الأشراف والقضاة والفقهاء في يوم الجمعة لليلة بقيت من رجب وعرض المصحف عليهم، فأشار أبو حامد الأسفرايني والفقهاء بتحريقه ففعل ذلك بحضرتهم فلما كان في شعبان كتب إلى الخليفة بأن رجلاً من أهل جسر النهروان حضر المشهد بالحائر ليلة النصف، ودعا على من أحرق المصحف وسبه، فتقدم بطلبه فأخذ فرسم قتله، فتكلم أهل الكرخ في هذا المقتول لأنه من الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين أهل باب البصرة وباب الشعير والقلائين، وقصد أحداث الكرخ باب دار أبي حامد فانتقل عنها ومعتد دار القطن وصاحوا: حاكم يا منصور فبلغ ذلك الخليفة فأحفظه وأنفذ الخول الذين على بابه لمعاونة أهل السنة وساعدهم الغلمان، وضعف أهل الكرخ وأحرق ما يلي بنهر الدجاج، ثم اجتمع الأشراف والتجار إلى دار الخليفة فسألوه العفو عما فعل السفهاء فعفا عنهم " ( 1804 ). ويقول اليافعي في مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان مؤكّداً ما سبق الحديث عنه من قبل ابن الجوزي: " ثارت فتنة هائلة ببغداد. قصد رجل شيخ الشيعة ابن المعلم وهو الشيخ المفيد وأسمعه ما يكره، فثار تلامذته، وقاموا، واستنفروا الرافضة، وأتوا قاضي القضاة أبا محمد الأكفاني، والشيخ أبا حامد الأسفراييني، فسبوهما، فحميت الفتنة، ثم إن أهل السنة أخذوا مصحفاً قيل إنه على قراءة ابن مسعود، فيه خلاف كثير، فأمر الشيخ أبو حامد والفقهاء بإتلافه، فأتلف بمحضر منهم، فقام ليلة النصف رافضي، وشتم فأخذ، فثارت الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين السنية، واختفى أبو حامد، واستنفرت الروافض، وصاحوا حاكم يا منصور، فغضب القادر بالله، وبعث خيلاً لمعاونة السنية، فانهزمت الرافضة، حرق بعض دورهم، وذلوا وأمر عميد الجيوش بإخراج ابن المعلم من بغداد، فأخرج، وحبس جماعة، ومنع القصاص مدة " ( 395 ).
في تاريخ الشافعية للسبكي، نجد تفاصيل إضافية تحدد لنا السنة: " ومن محاسن الشيخ أبي حامد أنه اتفق في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وقوع فتنة بين أهل السنة والشيعة ببغداد بسبب إخراج الشيعة مصحفا قالوا إنه مصحف ابن مسعود وهو يخالف المصاحف كلها، فثار عليهم أهل السنة وثاروا هم أيضاً ثم آل الأمر إلى جمع العلماء والقضاة في مجلس فحضر الشيخ أبو حامد وأحضر المصحف المشار إليه فأشار الشيخ أبو حامد والفقهاء بتحريقه ففعل ذلك بمحضر منهم فغضبت الشيعة وقصد جماعة من أحداثهم دار الشيخ أبي حامد ليؤذوه فانتقل منها ثم سكن الخليفة الفتنة وعاد الشيخ أبو حامد إلى داره " ( 492 ).
يؤكّد الذهبي في العبر ما أشير إليه آنفاً حيث يقول: "كانت فتنة هائلة ببغداد، قصد رجلٌ شيخ الشِّيعة ابن المعلّم، وهو الشيخ المفيد، وأسمعه ما يكره، فثار تلامذته، وقاموا واستنفروا الرافضة، وأتوا دار قاضي القضاة، أبي محمد بن الأكفاني، والشيخ أبي حامد بن الأسفراييني، سبّوهما، وحميت الفتنة. ثم إن السُّنّة أخذوا مصحفاً، قيل إنه على قراءة ابن مسعود فيه خلاف كثير، فأمر الشيخ أبو حامد والفقهاء بتحريقه، فأحضر بمحضر منهم، فقام ليلة النصف رافضي وشتم من أحرق المصحف، فأخذ وقتل، فثارت الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين السنة، واختفى أبو حامد، واستظهرت الروافض، وصاحوا: الحاكم يا منصور، فغضب القادر بالله، وبعث خيلاً لمعاونة السنة، فانهزمت الرافضة، وأحرقت بعض دورهم وذلُّوا، وأمر عميد الجيوش، بإخراج ابن المعلِّم من بغداد،أخرج. وحبس جماعة، ومنع القصّاص مدّة "( 175).
ابن كثير من ناحيته يقول في البداية والنهاية: "على فتيا الشيخ أبي حامد الأسفراييني فيما ذكره ابن الجوزي في "منتظمه": وفي عاشر رجب جرت فتنة بين السنة والرافضة، سببها أن بعض الهاشميين قصد أبا عبد الله محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم - وكان فقيه الشيعة - في مسجده بدرب رباح، فعرض له بالسب فثار أصحابه له واستنفر أصحاب الكرخ وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الأكفاني والشيخ أبي حامد الأسفراييني، وجرت فتنة عظيمة طويلة، وأحضرت الشيعة مصحفاً ذكروا أنه مصحف عبد الله بن مسعود، وهو مخالف للمصاحف كلها.فجمع الأشراف والقضاة والفقهاء في يوم جمعة لليلة بقيت من رجب، وعرض المصحف عليهم فأشار الشيخ أبو حامد الأسفراييني والفقهاء بتحريقه، ففعل ذلك بمحضر منهم، فغضب الشيعة من ذلك غضباً شديداً، وجعلوا يدعون ليلة النصف من شعبان على من فعل ذلك ويسبونه، وقصد جماعة من أحداثهم دار الشيخ أبي حامد ليؤذوه فانتقل منها إلى دار القطن، وصاحوا: يا حاكم يا منصور.وبلغ ذلك الخليفة فغضب وبعث أعوانه لنصرة أهل السنة، فحرقت دور كثيرة من دور الشيعة وجرت خطوب شديدة، وبعث عميد الجيوش إلى بغداد لينفي عنها ابن المعلم فقيه الشيعة، فأخرج منها ثم شفع فيه، ومنعت القصاص من التعرض للذكر والسؤال باسم الشيخين، وعلي (رض) م، وعاد الشيخ أبو حامد إلى داره على عادته "( 728).
أما لباب الأنساب والألقاب فيقول في الحدث ذاته: "وفي رجب قصد بعض الهاشميين أبا عبد الله محمد بن النعمان بن المعلم شيخ الشيعة، وهو في مسجد، وتعرض به تعرضاً امتعض منه تلامذته، فثاروا واستنفروا أهل الكرخ، وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الأكفاني والشيخ أبي حامد الإسفراييني فسبوهما، وطلبوا الفقهاء ليوقعوا بهم، ونشأت فتنة عظيمة، وأحضر مصحف ذكروا أنه مصحف ابن مسعود، وهو يخالف المصاحف، فجمع له القضاة والكبار، فأشار أبو حامد والفقهاء بتحريفه، ففعل ذلك بمحضرهم، وبعد أيام كتب إلى الخليفة بأن رجلاً حضر المشهد ليلة نصف شعبان، ودعا على من أحرق المصحف وشتمه، فتقدم بطلبه، فأخذ، فرسم بقتله، فتكلم أهل الكرخ في أمر هذا المقتول لأنه من الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين أهل البصرة وباب الشعير ونهر القلائين، وقصد أهل الكرخ دار أبي حامد، فانتقل عنها، ونزل دار القطن، وصاح الروافض: "يا حاكم يا منصور"، فأحفظ القادر بالله ذلك، وأنفذ الفرسان الذين على بابه لمعاونة السنة، وساعدهم الغلمان، فانكسر الروافض وأحرق ما يلي نهر الدجاج، ثم اجتمع الرؤساء إلى الخليفة، فكلموه، فعفا عنهم ودخل عميد الجيوش بغداد، فراسل ابن المعلم بأن يخرج عن بغداد ولا يساكنه، ووكل به، فخرج في رمضان، وضرب جماعة، ممن قام في الفتنة، وحبس آخرين، ومنع القصاص من الجلوس" (2861 ).
من ناحيته، يقول السرخسي في المبسوط : "ونحن أثبتنا التتابع بقراءة ابن مسعود فإنها كانت مشهورة إلى زمن أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى كان سليمان الأعمش يقرأ ختما على حرف ابن مسعود وختما من مصحف عثمان (رض) والزيادة عندنا تثبت بالخبر المشهور" (282). ويؤكّد ذلك المطرزي في المغرب في ترتيب المعرب: " كَانَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتَمًا أَيْ يَخْتِمُ خَتْمًا مَرَّةً بِحَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَرَّةً مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ - (رض) " ( 98 ).
بالمقابل، نجد معلومة في صبح الأعشى تربط بين الخوارج ومصحف ابن مسعود: "وهم الخوارج ويعتمدون في القرآن الكريم على مصحف عبد الله بن مسعود (رض) ، دون المصحف الذي أجمع عليه الصحابة (رض) م، فلا يثبتون ما لم يثبت فيه قرآناً" ( 2261 ).
نختم أخيراً هذه الفقرة المتعلّقة باختفاء مصحف ابن مسعود بعودة سريعة إلى الفقرة الأخيرة من كتاب جفري من مقدمته لمصحف ابن مسعود: (إن قيمة هذا التقليد مسألة أخرى. وهنالك عبارة في الفهرست (ص 26) عن ابن اسحق، تقول إن هنالك مصاحف عديدة موجودة يفهم منها أنها مصحف ابن مسعود، لكن ما من أحد منها يتفق مع الآخر. ويزعم ابن النديم أنه رأى نسخة قديمة جداً مما أورده الفهرست. ليس من المرجح بديهيّاً أن ترتيب المواد في أي من المصاحف المتنافسة كان سيتبع ترتيب السور ذاته الموجود في النص الذي وضعه زيد بن ثابت لعثمان بن عفّان. في الروايات المتعلقة بذلك التحرير الرسمي نجد قطعاً من مواد تأتي واللجنة تنظر في المكان الأنسب الذي يجب أن توضع به، ومن غير المحتمل على الإطلاق أن السور المركبة التي تم وضعها من قطع من مواد مكيّة وأخرى مدنيّة، التي تختلف زماناً ومكاناً جداً، سوف توضع في المكان ذاته تحديداً من قبل الجامعين المتباينين. كذلك من غير المرجّح أن يكون الجامعون المختلفون اختاروا العناوين ذاتها لتلك السور. أما الأحاديث المتعلّقة بنظام السور، في حالة مصحف ابن مسعود أو غيره من المصاحف، فهي ترد من أشخاص يعرفون منظومة السور في المصحف العثماني، لكنهم عرفوا أن المواد تم ترتيبها بشكل مختلف عن المصحف العثماني في المصاحف الأخرى، فوضعوا بالتالي قوائم سور يعبرون فيها عن هذا الاختلاف.
ثمة نظريّة بديلة مفادها أنه حين كان النص العثماني قيد التداول العام، تم ترتيب المواد في مصحف ابن مسعود في نسخ جديدة جعل لها عناوين السور التي للمصحف العثماني، مع أنها لا تتبع الرتيب ذاته. لذلك من الواضح بالطبع أن الكتّاب المتأخرين الذين استخدموا موادّ من هذه المصاحف القديمة كانوا سيستشهدون بها وفق سور وآيات النص العثماني).
أمثلة توضيحيّة:
في عملنا على الفوارق النصيّة بين المصاحف، وجدنا كثيراً من تلك الفوارق في أمهات الكتب الإسلاميّة. وقبل أن نورد بعض ما توصلنا إليه، يبدو من المناسب الاستشهاد بالفوارق التي دونها جفري في عمله، والتي تتعلّق فقط بسورة الفاتحة؛ فالبحث المنشور في موقع بحثي أو مجلة تخصصيّة يختلف عن الكتاب الذي يمكن التفصيل فيه أكثر.
يقول جفري إن ابن مسعود قرأ الفاتحة على النحو التالي، والنص من عندنا لكننا غيّرنا فيه وفق ما أورده جفري من فروقات في عمله: (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ملك يوم الدين. أرشدنا الصراط المستقيم. صراط من أنعمت عليهم. غِير المغضوب عليهم ولا الضّالين. آمين).
في واحد من أهم كتب التفسير عند أهل السنّة والجماعة، القرطبي، نجد أمثلة منها: نبدأ بسورة البقرة؛ في الآية 196، يقول ابن مسعود: "أقيموا الحج والعمرة" عوضاً عن "أتموا الحج والعمرة" ( ص 406 ). في الآية 214 يقال "وزلزلوا فزلزلوا ويقول حقيقة الرسول "، عوض "وزلزلوا حتى يقول الرسول" ( 294 ). في الآية 248؛ يقال: "يغفر" بدل "فيغفر" ( ص 486 ).
في كشاف الزمخشري (72)؛ يقال إن ابن مسعود قرأ "ثومها" ( بقرة 61 ) بدل "فومها". وفي الروض الآنف للسهيلي؛ يقال: "وقيل في الفوم: إنه الثوم، واختاره ابن قتيبة، واحتج بأنه في مصحف عبد الله بن مسعود: وثومها "(253). وفي رسالة الملائكة للمعري (2) نجد ما يفيد بالمعنى ذاته.
بعودة إلى القرطبي، تطالعنا فيه الفروقات التالية: "وفي قراءة ابن مسعود "وأنزل الملائكة تنزيلا" لأن معنى نزل وأنزل واحد (فرقان 25)" ( 729 ) عوض: "ونزّل الملائكة تنزيلا". " في مصحف عبد الله بن مسعود: "قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم" ( 19:8 ) " ( 1544 )؛ عوض: "وإن تنتهوا فهو خير لكم".
" وقرئ "يوم يأت" لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة " ( 158:6 )؛ بدل "يوم يأتي" (1771).
" وفي مصحف ابن مسعود "ووصى" وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضا وعلي وغيرهما, وكذلك عند أبي بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو "ووصى ربك" فالتصقت إحدى الواوين فقرئت "وقضى ربك" إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد " (الإسراء) ( 2039 ).
" وفي قراءة ابن مسعود "وقالوا لبثوا" " ( 2115 )؛ بدل " ولبثوا " ( كهف 25 ). " وفي مصحف ابن مسعود:" أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق "" ( 2227 ) بدل: " أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى " ( 15:20 ).
" وفي قراءة ابن مسعود "ولا تهنا في ذكري" وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي " ( 2233 )، بدل: " ولا تنيا في ذكري " ( 15:20 ).
" وقرأ ابن مسعود: "فلكزة"؛ وقيل: اللكز في اللحى والوكز على القلب وحكى الثعلبي أن في مصحف عبد الله بن مسعود "فنكزه" بالنون والمعنى واحد" (2600)؛ عوض: "فوكزه" ( القصص 15 ).
" عن أسماء أنها سمعت النبي (ص) يقرأ: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم" توبة. وفي مصحف ابن مسعود "إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء"" (2987) (الزمر 53 ).
" وقرأ ابن عباس: "حم. سق" بغير عين. وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود " (3037 )؛ (الشورى 1-2 ).
" وعن مجاهد "فلا تقهر" فلا تحتقر. وقرأ النخعي والأشهب العقيلي "تكهر" بالكاف، وكذا هو في مصحف ابن مسعود " ( 3693 ) ( الضحى 9 ).
" وفي حرف أبيّ: "فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين". وفي مصحف ابن مسعود: "لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين". وقد تقدم ". (3714 )؛ ( البينة 1 ).
" وقرأ عكرمة "ليألف" بفتح اللام على الأمر وكذلك هو في مصحف ابن مسعود " ( 3741 )؛ بدل "لإيلاف" ( قريش 1 ).
ننتقل الآن إلى أمالي القالي؛ حيث يقال: "وفي مصحف ابن مسعود: قشطت". وفي المزهر للسيوطي؛ يقال: "وقريش تقرأ: "وإذا السَّماء كُشِطت" وأسد: قُشِطت، وكذا هي في مصحف ابن مسعود" " ( 175 )؛ عوض (تكوير 11 ). وفي المخصص لابن سيده: "وقُرَيش تقول: كَشَطت، وقيس وتميم وأسد تقول: قَشَطت، وفي مصحف عبد الله بن مسعود قُشِطَتْ " ( 1280 (. وفي القلب والإبدال: "قال وقريش تقول كشطت وقيس وتميم وأسد قشطت، وفي مصحف عبد الله بن مسعود قشطت بالقاف" (11).
في كشاف الزمخشري، نقرأ: " وقرئ: "وأن هذا صراطي مستقيماً" وفي مصحف عبد الله: وهذا صراط ربكم " ( 384 ) ( الانعام 155 ) . ثم يقال: "وفي مصحف ابن مسعود "أخي واشدد" " ( 753 ) ( طه 30، 31 )؛ بدل: " أخي أشدد".
في المقتضب للمبرد، يقال: "وهذه الآية في مصحف ابن مسعود "وإذن لا يلبثوا خلفك" ( 64 )؛ بدل: "وإذاً لا يلبثون خلفك "(الاسراء 76).
في لباب الأنساب والألقاب للبيهقي؛ يقال: "ذكر الثعلبي في تفسيره عن الأعمش عن أبي وائل أنه قال: قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين" (10) ؛ بدل: "آل إبراهيم وآل عمران على العالمين" (آل عمران 33).
في تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين للصفاقسي؛ نقرأ: "وقرأ وَماَ يعَلَمُ تَأوِيلَهُ إلا اللهُ ويقوُلُ الراسخُونَ في الْعِلْمِ ءَامَناَ بِه وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود" (61)؛ بدل: " وما بعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " ( آل عمران 7).
وفي كتاب الصناعتين للعسكري، نقرأ: "وقال الله تعالى: "وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال"، بمعنى لتكاد تزول منه. ويقال إنها في مصحف ابن مسعود مثبتة، وقد جاءت في القرآن مثبتة وغير مثبتة ". ( إبراهيم 46 ) ( 108).
وفي المحيط والمحيط الأعظم لابن سيده، ورد: "وأرْعِني سمعك، ورَاعِنِي سمعك أي استمع إليَّ، وفي التنزيل "لا تَقُولُوا رَاعِنا" وفي مصحف ابن مسعود راعونا" (287)؛ (البقرة 104)
في لوس أنجلوس قبل أعوام، حالفنا الحظّ عن طريق صديق أميركيّ من كنيسة "يسوع للمسلمين" الانجيليّة، بأن تمكّنا من تصوير نسخة من كتاب آرثر جفري الأهم، Materials For the History of the Text of the Qur’an ( طبعة لايدن، 1937 ). هذا الكتاب الذي أخذ من صاحبه الجهد والوقت الكثير، في زمن حيث لا حواسيب ولا تقنيات عالية، يمكن اعتباره حتى اليوم النقلة الأهمّ في تاريخ فروقات المصاحف. ورغم عملي الطويل على نصّ جفري وإضافاتي الكثيرة إليه، فقد آثرت توخّياً للسلامة عدم نشر النتائج التي أخذتها عن جفري أو التي توصلت إليها ذاتياً؛ خاصة وأن نشري عام 1998 لنصوص رضاع الكبير في كتابي "أمّ المؤمنين تأكل أولادها" عاد علي بكثير من الألم والقرف. مع ذلك، فحبّ المعرفة مسألة لا تعرف الخوف ولا الحلول التوفيقية. من هنا، فقد آثرت أن أنشر اليوم ما عملت عليه منذ عام 2005، من نصوص جفري وتعليقاتي عليها.
طريقة العمل:
في سلسلة النصوص المتتالية التي تبدأ بنص مصحف ابن مسعود، سوف نعتمد أساساً نص جفري المترجم عن الانكليزية، ثم نضيف تعليقاتنا حيث يتوجب التعليق؛ مع ملاحظة أن التعليقات الموثقة بشكل كامل، تتخطّى حجماً نص الباحث البارز. ومن أجل سهولة الفرز والتمييز، نضع نص جفري ضمن أقواس() والنصوص من الشواهد ضمن أقواس صغيرة " ". كذلك فإن الفروقات النصيّة بين مصحف ابن مسعود ومصحف زيد بن حارثة سنحذفها لأنها موجودة في كتاب جفري أصلاً باللغة العربيّة. لكننا سنقدّم كعينة الفروقات بين نصي الفاتحة في المصحفين؛ رغم اتفاق معظم المراجع ذات الشأن أن ابن مسعود حذف الفاتحة من مصحفه. واعتقادنا هنا أنه لم ينف وجود الفاتحة كنص ليتورجي، لكنه لم يقبل أن تكون جزءاً من القرآن الكريم.
إن هدفنا الواضح من هذه السلسلة في تاريخ النص القرآني هو إظهار أن فروقات المصاحف كانت نصيّة، بمعنى أن القرآن الكريم قرئ ودوّن على نحو مختلف من قبل صحابة مختلفين؛ بغضّ النظر عن الحديث المتواتر هنا وهناك عن إسقاط آيات من القرآن الكريم أو حذف سور كاملة. ونلاحظ هنا أننا لم نعتمد غير مراجع أهل السنّة والجماعة في المسألة، لأنّ الدخول في معضلة تحريف القرآن أو نقصه في مراجع الإثني عشريين المعتمدة، كـ"الكافي" أو "من لا يحضره الفقيه"، لا تفيد إلا في زيادة تشويش الصورة. كذلك فقد ارتأينا أن نعتمد بعض النصوص الأدبيّة القديمة، ولدينا نظريّة تقول إن الأديب كان أكثر حرية في نقل وتدوين نصوصه من المؤرخ أو المحدّث أو المفسّر، الذين ارتبطوا بشكل أو بآخر بالسلطة الحاكمة وقتها، ومن ثم فقد كانت نصوصهم لا تخلو من رقابة عموماً.
من المفيد أن نذكر هنا أننا عملنا ما في وسعنا كي لا نتدخّل في النصوص التي اقتصر دورنا على جمعها وتنسيقها ومن ثم تقديمها كما هي، مهما كانت متناقضة إن ذاتيّاً أو النص مع الآخر. وربما كان ما دونّاه من عندياتنا في هذه الدراسة وما سيليها هو الأقل في تاريخ عملنا البحثيّ؛ فقد آثرنا أن نقوم بدور الرابط بين نصوص تخدم غرضنا من كل هذا البحث: تأكيد الاختلافات النصيّة بين المصاحف، كما أشرنا آنفاً.
قصّة عبد الله بن أبي سرح:
من أكثر الشخصيات غموضاً في التاريخ الإسلامي، الصحابي المدعوّ عبد الله بن أبي سرح. هذا الرجل، "كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة" (المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء، 97 ). إنه " عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن حبيب بن جذيمة، أبو يحيى القرشي العامري. أسلم قبل الفتح وهاجر وكان يكتب الوحي لرسول الله (ص) ثم ارتدّ منصرفاً وصار إلى قريش بمكة" (الوافي بالوفيات للصفدي 2394). فلماذا ارتدّ الرجل، وهو الذي أسلم وهاجر؟ كما لاحظنا، كان عبد الله من كتبة الوحي؛ وهذا سبب ارتداده. يقول القرطبي في تفسيره: "وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في «المؤمنون»: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" (المؤمنون:12) دعاه النبي (ص) فأملاها عليه؛ فلما انتهى إلى قوله "ثم أنشأناه خلقا آخر" (المؤمنون: 14) عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان؛ فقال: "تبارك الله أحسن الخالقين" (المؤمنون: 14). فقال رسول الله (ص) : "وهكذا أنزلت عليّ"؛ فشك عبد الله حينئذ؛ وقال: لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال. فارتدّ عن الإسلام ولحق بالمشركين، فذلك قوله: "ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله" رواه الكلبي عن ابن عباس " ( 1341 ). ويقول الصفدي في الوافي نقلاً عن ابن أبي سرح: "إني كنت أصرف محمداً حيث أريد - كان يملي عليّ عزيز حكيم؛ فأقول: أو عليم حكيم؟! فيقول: كلٌّ صواب" (2394). ويختصرها أبو الفداء بقوله: "وكان عبد الله المذكور قد أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، فكان يبدّل القرآن، ثم ارتدّ". (السابق). وفي العقد الفريد: "كان عبدُ اللّه بن سعد بن أبي سرح يكتب له، ثم ارتدّ ولَحِق بالمُشركين، وقال: إنّ محمداً يكتب بما شِئْتُ" (537). لذلك، حين دخل محمد مكة بعد انتصاره على قريش، كان ابن أبي سرح أحد أربعة أمر محمد بقتلهم "صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففرّ عبد الله بن سعد إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة، أرضعته أمّ عثمان - فغيّبه عثمان حتى أتى به رسول الله (ص) بعدما اطمأن أهل مكة فأستأمنه له، فصمت رسول الله (ص) طويلاً؛ ثم قال: نعم! فلما انصرف عثمان قال رسول الله (ص) لمن حوله: ما صمتُّ إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه! فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟" (الوافي). فقال النبي: "إِن الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين" (مختصر أبي الفداء 97).
نسيان، نصوص ضائعة، نصوص أكلها الدجاج:
في كتابنا "أمّ المؤمنين تأكل أولادها" قدّمنا معظم ما استطعنا الوصول إليه من نصوص حول مسألة رضاع الكبير، الآية التي قيل إنها ضاعت من القرآن الكريم. وفي "محاضرات الأدباء للأصفهاني"، نجد ملخصّاً لما ورد في أمّهات الكتب حول نقص القرآن: "أثبت زيد بن ثابت سورتي القنوت في القرآن، وأثبت ابن مسعود في مصحفه: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب. وروي أن عمر (رض) ؛ قال: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله تعالى لأثبت في المصحف، فقد نزلت الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله شديد العذاب.(القرطبي 901؛ 2725؛ 2726؛ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 2852؛ أسد الغابة 1385؛ 1472 ) وقالت عائشة: لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير (من أجل التفاصيل؛ أنظر: أم المؤمنين تأكل أولادها؛ راجع أيضاً: محلى ابن حزم 1860؛ تفسير القرطبي 912) وكانتا في رقعة تحت سريري، وشغلنا بشكاة رسول الله (ص) فدخلت داجن فأكلته. وقال علقمة: أتيت الشام فجاء رجل فقعد إلى جنبي فقيل لي: هو أبو الدرداء، فقال: ممن أنت؟ قلت: من الكوفة. قال: أتحفظ كيف كان يقرأ "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى" ؟ قلت: نعم هكذا أقرأنيه رسول الله (ص)، وفوه إلى فيّ فما زال هؤلاء بي حتى كادوا يردونني عنهما. وأثبت ابن مسعود: بسم الله في سورة البراءة. وقالت عائشة: كانت الأحزاب تقرأ في زمن الرسول (ص) مائة آية، فلما جمعه عثمان (القرآن) لم يجد إلا ما هو الآن وكان فيه آية الرجم؛ وأسقط ابن مسعود من مصحفه أم القرآن والمعوذتين" (510). وفي الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ورد التالي: "وكتب عثمان منهم فاتحة الكتاب والمعوذتين. وأخرج الطبراني في الدعاء … عن عبد الله بن زرير الغافقي؛ قال: قال لي عبد الملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حبّ أبي تراب، إلا أنك أعرابي جلف، فقلت: والله لقد جعلت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علمهما إياه رسول الله (ص) ما علمهما أنت ولا أبوك. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق. وأخرج البيهقي من طريق… عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع؛ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستدعيك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى نقمتك، إن عذابك بالكافرين ملحق. قال ابن جريج: حكمة البسملة أنهما سورتان في مصحف بعض الصحابة. وأخرج محمد بن نصر الروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين فذكرهما، وأنه كان يكتبهما في مصحفه. وقال ابن الضريس:… في مصحف ابن عباس قراءة أبي وأبي موسى: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، وفيه: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكفار ملحق. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي إسحاق، قال: أمنا أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بخراسان، فقرأ بهاتين السورتين: إنا نستعينك ونستغفرك. وأخرج البيهقي وأبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران أن جبريل نزل بذلك على النبي (ص) وهو في الصلاة مع قوله (ليس لك من الأمر شيء) الآية لما قنت يدعو إلى مضر" ( 77 ).
وفي محاضرات الأدباء ( 511 ) نقرأ عن ابن عروة عن أبيه: "سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله: إن هذان (الأصح: هذين) لساحران، وعن قوله: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة، وعن قوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون [الأصح: الصابئين]، فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتابة.
كان عمر (رض) يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما اقرأها وكان رسول الله (ص) أقرأنيها، فأخذت بثوبه وذهبت به إلى رسول الله (ص) فقلت: إني سمعته يقرأ القرآن على غير ما أقرأتني، فقال: اقرأ فقرأت، فقال (ص) هكذا أنزلت. ثم قال لهشام: اقرأ فقال (ص): هكذا أنزلت. ثم قال: إن هذا لقرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ".
في " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي "؛ نقرأ " عن ابن عمر؛ قال: قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله (ص) فكانا يقرآنها؛ فقاما ذات ليلة يصليان بها، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله (ص)؛ فذكروا له؛ فقال رسول الله (ص): إنها مما نسخ أو نسى فالهوا عنها!!… وعن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدث أنه كان يكتب المصاحف في عهد أزواج النبي (ص)؛ قال: فاستكتبتني حفصة ( زوج النبي ) مصحفاً؛ وقالت إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله (ص)! قال: فلما بلغتها جئتها بالورقة التي أكتبها فيها؛ فقالت: اكتب "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين"" ( 1241 ).
مصحف عبد الله بن مسعود ( مات عام 33 للهجرة ):
يقول آرثر جفري في كتابه الموسوعي، مواد من أجل تاريخ نص القرآن، (عبد الله بن مسعود ( يستشهد به في المراجع باسم عبد الله أحياناً وأحياناً أخرى باسم ابن أم عبد ) هو أحد الصحابة من أوائل من آمن حيث كان باستطاعته أن يفاخر أنه أسلم قبل عمر بن الخطّاب. في صباه رعى الغنم لعقبة بن أبي معيط وكان يشار إليه بنوع من الاحتقار أحياناً باسم عبد الحذلي (تاريخ الطبري، 1، 2821 ). حين أسلم كرّس نفسه للنبي وأضحى خادمه الشخصي. هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة أيضاً وحضر موقعتي بدر وأحد. كان يتفاخر بأنه تعلّم نحواً وسبعين سورة من فم النبي مباشرة، والروايات تقول إنه كان واحداً من أوائل الذين علموا قراءة القرآن (ابن سعد، III، i، 107). لا يبدو انه نال نجاحاً كبيراً في محاولته الحصول على منصب رسمي، لكنه في الكوفة، التي أرسله الخليفة إليها، اشتهر كمحدّث وكمرجع قرآني. وتخبرنا الروايات أنه كان أحد أربعة نصح محمد أمته أن تلجأ إليهم في الحصول على معلومات بشأن القرآن (خذوا القرآن من أربعة؛ النووي، 371؛ البخاري ( ط. كريل ) III، 396 ). ودون شك كان لعلاقته الشخصية الوطيدة بالنبي لسنوات عديدة الدور الرئيس في إعطاء تلك المكانة لآرائه في السنّة والقرآن ) ( ص 20 ).
مكانة عبد الله بن مسعود كمرجع قرآني:
انطلاقاً من إشارة جفري إلى مكانة ابن مسعود كمرجع قرآني عند النبي والمسلمين الأوائل، نبحر الآن في بعض النصوص من المراجع الإسلامية القديمة لنوثّق ما أشار إليه باحثنا الشهير؛ ففي أنساب أشراف البلاذري (2199)؛ نقرأ: "كان نفر من أصحاب رسول الله (ص) في دار أبي موسى يعرضون مصحفاً فقام عبد الله فخرج فقال أبو مسعود الأنصاري: هذا أعلم من بقي بما أنزل على محمد (ص) ". ونقرأ: " عن عبد الله بن مسعود قال: أخذت من فم رسول الله (ص) سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد.". وأيضاً: " مسروق؛ قال: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله (ص): علي، وعمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري ". وقيل أيضاً: " كان مهاجر عبد الله بن مسعود إلى حمص فحدره عمر إلى الكوفة، وكتب إليهم: والله الذي لا إله إلا هو لقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي فخذوا عنه". وفي تاريخ الإسلام للذهبي ( 432 ): "كتب عمر إلى أهل الكوفة: إنني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً، وابن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله (ص) من أهل بدر، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما، فقد آثرتكم بعبد الله على نفسي". بعودة إلى أنساب الأشراف؛ نقرأ: "وبعث عمر عبد الله بن مسعود على قضاء أهل الكوفة وبيت مالهم، وفرض له ولعمّار ولعثمان بن حنيف شاة: شطرها وسواقطها لعمار ولابن مسعود، ولعثمان الشطر الآخر". ":كان ابن مسعود يوافي عمر في كل موسم فيعرض عليه ما كان فيه فما رضيه أقام عليه وما نهاه عنه تركه. وجاء قوم فشكوه فلم يحفل بشكيتهم". "عبد الرحمن بن يزيد قال: كان ابن مسعود يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن لا يخطئ بألف ولا واو". ( 1518 ).
في ربيع الأبرار، قال الزمخشري: "استمع عليه الصلاة والسلام ومعه العمران إلى ابن مسعود فقال: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".
في تاريخ الإسلام للذهبي، يقال: "عن علي؛ قال: قال رسول الله (ص) : "لو كنت مؤمراً أحد عن غير مشورة لأمرت عليهم ابن أم عبيد". وفيه أيضاً: "عن حذيفة قال: قال رسول الله (ص) : "اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدى عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد". حسنه الترمذي. لكن لفظه: "وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه". وقال أيضاً: " قال: قال رسول الله (ص) : "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد؛ وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه النبي (ص) في هديه وله وسمته. وقال أبو إسحاق السبيعي: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: قلنا لحذيفة: أخبرنا برجل قريب السمت والدل برسول الله حتى نلزمه، قال: ما أعلم أحداً أقرب سمتاً ولا هدياً ولا دلاً من رسول الله (ص) حتى يواريه جدار بيته من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد (ص) أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله زلفة "(432). في المرجع السابق، نقرأ أيضاً: "وقال عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله (ص) يقول: "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى حذيفة". وقال مسروق، عن عبد الله قال: ما من آية إلا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته"( 432). وفيه أيضاً: "قال أبو وائل: إني لجالس مع عمر، إذ جاء ابن مسعود، فكاد الجلوس يوازونه من قصره -يعني وهو قائم- فضحك عمر حين رآه، وجعل يكلم عمر ويضاحكه وهو قائم عليه، ثم ولى فأتبعه عمر بصرة حتى توارى فقال: كنيف مليء علماً. وقال الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي موسر أنه قال: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم، يعني ابن مسعود. وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة بن عبد الله: سمعت أبا موسى يقول: مجلس كنت أجالسه ابن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة. وقال الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير قال: جاء نعي عبد الله إلى أبي الدرداء فقال: ما ترك بعده مثله.وقال مسروق: انتهى علم الصحابة إلى علي وابن مسعود". (432).
جمع المصاحف:
تتضارب الروايات كالعادة حول الأسباب التي أدّت بالجهات الرسميّة، ممثلة بالخلفاء، إلى الطلب من الصحابة الأقرب إلى النبي بأن يجمعوا المصاحف ويدونوها. لكن ثمة من يرى أن هذا الجمع بدأ مع النبي ذاته. يقول الرافعي في تاريخ آداب العرب: "وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من القرآن ابتداء من أنفسهم، أو بأمر من النبي (ص) فيخطونه على ما اتفق لهم يومئذ من العسب والكرانيف واللخّاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع من الشاة والإبل، وكل ما أصابوا من مثلها مما يصلح لغرضهم، يكتب كلّ منهم ما تيسر له أو يسرته أحواله. ولكن مما ليس فيه ريب أن منهم قوماً جمعوا القرآن كله لذلك العهد، وقد اختلفوا في تعيينهم، بيد أنهم أجمعوا على نفر، منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وهؤلاء كانوا مادة هذا الأمر من بعد فإن المصاحف التي اختصت بالثقة كانت ثلاثة: مصحف ابن مسعود، ومصحف أبيّ، ومصحف زيد، وكلهم قرأ القرآن وعرضه على النبي (ص) ، فأما ابن مسعود فقرأ بمكة وعرض هناك" (143).
في محاضرات الأدباء للأصفهاني، نقرأ شيئاً آخر؛ إذ يقال: " كان رسول الله (ص) إذا نزلت سورة؛ قال: ضعوا هذه في الموضع الذي ذكر فيه كذا. وروي أن عمر (رض) كان قد جمع القرآن في مصحف كان عند حفصة، وهو الذي أرسل مروان فيه وهو والي المدينة إلى عبد الله بن عمر يوم ماتت حفصة، فأمر بإحراقه مخافة الاختلاف. وقال أبو بكر: إن عمر لما رأى القتل قد استعر بقراء القرآن يوم اليمامة؛ قال: إني لأخشى أن يذهب قرآن كثير، وإني أرى أن يجمع القرآن، فقلت: كيف أفعل ما لم يفعله الرسول (ص) ؟ فقال: إنه لخير، فشرح الله صدري ففعلت. وقيل: أول من جمع القرآن بين لوحين أبو بكر (رض). وقال زيد بن ثابت: دعاني أبو بكر وقال: إنك رجل شاب وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (ص) فاجمع القرآن واكتبه؛ ففعلت. وقيل: أحرق عثمان (رض) مصحف ابن مسعود وأن ابن مسعود كان يقول: لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم كذلك. وأحرق مروان مصحف عمر (رض) . وقيل: القرآن ثلاثمائة ألف حرف وواحد وعشرون حرفاً، وهو ستة آلاف وستمائة وتسع وتسعون آية" (510). موضوعة مصحف حفصة تؤكدها مراجع أخرى؛ منها، تاريخ المدينة المنورة لابن شبة، حيث يقال: "لما تُوُفِّيَت حفصةُ أرسل مَرْوَان إلى ابن عمرَ (رض) بعزيمة ليُرْسِلَنَّ بها، فساعةَ رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابنُ عمر (رض) فشَقَّقَها ومزَّقها مخافةَ أن يكون في شيء من ذلك خلافٌ لما نَسَخَ عثمانُ (رض) ".( 295 ). إذن، الملفت هنا هو حرق مصحف حفصة، وهو ما سنقدّم دراسة عنه ومقاطع من آياته المخالفة لمصحف زيد- عثمان في حلقة لاحقة.
إذن، بدأت الفكرة مع عمر بن الخطّاب بعد موقعة اليمامة وموت كثير من حفظة القرآن، الذين لا نعرف إن كان ماتت معهم أيضاً سور لم يعرفها غيرهم. لكن ما هو السبب المباشر الذي أدّى بعثمان بن عفّان إلى القيام بتحريره الرسمي للنص القرآني الذي عرف من ثم بمصحف عثمان؟ ولماذا أراد عثمان فرض نص بعينه على المسلمين، على اختلاف أمصارهم؟ في أنساب الأشراف، نقرأ: "وصرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان، فأقام حتى قفل حذيفة ثم رجعا. فقال له حذيفة: إني سمعت في سفرتي هذه أمراً لئن ترك الناس ليضلن القرآن ثم لا يقومون عليه أبداً، قال: رأيت أمداد أهل الشام حين قدموا علينا، فرأيت أناساً من أهل حمص يزعمون لأناس من أهل الكوفة أنهم أصوب قراءة منهم، وأن المقداد أخذها من رسول الله (ص) ، ويقول الكوفيون مثل ذلك، ورأيت من أهل دمشق قوماً يقولون لهؤلاء: نحن أصوب منكم قراءة وقرآن، ويقول هؤلاء لهم في مثل ذلك. فلما رجع إلى الكوفة دخل المسجد فحذر الناس مما سمع في غزاته، فساعده على ذلك أصحاب رسول الله (ص) ومن أخذ عنهم وعامة التابعين، وقال له قوم ممن قرأ على عبد الله: وما تنكر؟ ألسنا نقرأ على قراءة ابن أم عبد ؟ وأهل البصرة يقرؤون على قراءة أبي موسى ويسمونها لباب الفؤاد، وأهل مصر يقرؤون على قراءة المقداد وسالم؟ فغضب حذيفة من ذلك وأصحابه وأولئك التابعون، وقالوا: إنما أنتم أعراب، وإنما بعث عبد الله إليكم ولم يبعث إلى من هو أعلم منه، فاسكتوا فإنكم على خطأ. وقال حذيفة: والله لئن عشت حتى آتي أمير المؤمنين لأشكونّ إليه ذلك، ولأشيرنّ عليه أن يحول بينهم وبين ذلك حتى ترجعوا إلى جماعة المسلمين والذي عليه أصحاب رسول الله (ص) بالمدينة. وقال الناس مثل ذلك، فقال عبد الله: والله إذاً ليصلينّ الله وجهك نار جهنم. فقال سعيد بن العاص: أعلى الله تألى والصواب مع صاحبك؟ فغضب سعيد وقام، وغضب ابن مسعود فقام، فغضب القوم فتفرقوا، وغضب حذيفة فرحل إلى عثمان فأخبره بالذي حدث في نفسه من تكذيب بعضهم بعضاً بما يقرأ، ويقول: أنا النذير العريان فأدركوا. فجمع عثمان الصحابة، وأقام حذيفة فيهم بالذي رأى وسمع، فأعظموا ذلك، ورأوا جميعاً مثل الذي رأى، قالوا: إن يتركوا ويمضي هذا القرن لا يعرف القرآن. فسأل عثمان: ما لباب الفؤاد؟ فقيل: مصحف كتبه أبو موسى، وكان قرأ على رجال كثير ممن لم يكن جمع على النبي (ص) . وسأل عن مصحف ابن مسعود فقيل له: قرأ على مجمع بن جارية وخباب بن الأرت، وجمع القرآن بالكوفة، فكتب مصحفاً وسأل عن المقداد فقيل له: جمع القرآن بالشام، فلم يكونوا قرؤوا على النبي (ص) إنما جمعوا القرآن في أمصارهم، فاكتتب المصاحف وهو بالمدينة، وفيها الذين قرؤوا القرآن على النبي (ص) وبثها في الأمصار، وأمر الناس أن يعمدوا إليها وأن يدعوا ما يعلم في الأمصار. فكل الناس عرف فضل ذلك، أجمعوا عليه وتركوا ما سواه إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن قراء قراءة عبد الله نزوا في ذلك حتى كادوا يتفضلون على أصحاب النبي (ص) ، وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود فقال: ولا كل هذا، إنكم قد سبقتم سبقاً بيناً، فاربعوا على ظلعكم. ولما قدم المصحف الذي بعث به عثمان على سعيد، وأجمع عليه الناس، وفرح به أصحاب النبي (ص) بعث سعيد إلى ابن مسعود يأمره أن يدفع إليه مصحفه، فقال: هذا مصحفي، تستطيع أن تأخذ ما في قلبي؟ فقال له سعيد: يا عبد الله، ما أنا عليك بمسيطر، إن شئت تابعت أهل دار الهجرة وجماعة المسلمين، وإن شئت فارقتهم، وأنت أعلم.قال مصعب بن سعد: قام عثمان فخطب الناس فقال: أيها الناس، عهدكم بنبيكم (ص) منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون قراءة أبي وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك، فأعزم على رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم: أسمعت رسول الله (ص)، وهو أمله عليك ؟ فيقول: نعم. فلما فرغ من ذلك عثمان قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله (ص) زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال: عثمان: فليمل سعيد وليكتب زيد، فكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد (ص) يقول: قد أحسن" (2199).
في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة؛ يقال: "أن حذيفة بن اليمان (رض) قدم من غزوة غزاها بفرج أرمينية فحضرها أهلُ العراق وأهلُ الشام، فإذا أهلُ العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود ويأتون بما لم يسمع أهل الشام ويقرأُ أهل الشام، بقراءة أبي بن كَعْب، ويأْتون بما لم يسمع أهلُ العراق، فيكفرهم أهل العراق. قال: فأمرني عثمان (رض) أن أكتب له مصحفاً فكتبتُه. فلما فرغت منه عَرَضَه " ( 291 ).
في البداية والنهاية نجد المضمون ذاته بصيغة أخرى: "ومن مناقبه (عثمان بن عفّان) الكبار وحسناته العظيمة: أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على الفرضة الأخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله (ص) في آخر سني حياته. وكان سبب ذلك: أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم يسوغان القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خطّأ الآخر أو كفره. فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم. وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة ودفع الاختلاف، فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت يجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر. فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعى بها عثمان، وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب، وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش. فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، بعث إلى البصرة مصحفاً، وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفاً، إلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفاً. ويقال لهذه المصاحف: الأئمة، وليست كلها بخط عثمان بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت. وإنما يقال لها المصاحف: العثمانية، نسبة إلى أمره وزمانه وإمارته، كما يقال: دينار هرقلي، أي: ضرب في زمانه ودولته. قال الواقدي: … عن أبي هريرة قال: لما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووفقت، أشهد لسمعت رسول الله (ص) يقول: إن أشد أمتي حبَّاً لي، قوم يأتون من بعدي يؤمنون ولم يروني، يعملون ما في الورق المعلق. فقلت: أي ورق؟ حتى رأيت المصاحف، قال: فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف، وقال: والله ما علمت أنك لتحبس علينا حديث نبينا (ص) . ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه، لئلا يقع بسببه اختلاف. فقال أبو بكر بن أبي داود في "كتاب المصاحف":.. عن سويد بن غفلة. قال: قال لي علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته… سويد بن غفلة قال: قال علي: أيها الناس! إياكم والغلو في عثمان، تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأٍ من أصحاب محمد (ص) ، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل. وقد رُوي عن ابن مسعود: أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). فكتب إليه عثمان (رض) يدعوه إلى إتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة (رض) أجمعين. وقد قال أبو إسحاق: عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عبد الله بن مسعود دخل مسجد منى فقال: كم صلى أمير المؤمنين الظهر ؟. قالوا: أربعاً. فصلى ابن مسعود أربعاً. فقالوا: ألم تحدثنا أن رسول الله (ص) وأبا بكر وعمر صلوا ركعتين ؟" ( 2795 ).
يخبرنا اليعقوبي في تاريخه تفاصيل إضافيّة: "وجمع عثمان القرآن وألفه، وصير الطوال مع الطوال، والقصار مع القصار من السور، وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت، ثم سلقها بالماء الحار والخل، وقيل أحرقها، فلم يبق مصحف إلا فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود. وكان ابن مسعود بالكوفة، فامتنع أن يدفع مصحفة إلى عبد الله بن عامر، وكتب إليه عثمان: أن أشخصه، إنه لم يكن هذا الدين خبالاً وهذه الأمة فساداً. فدخل المسجد وعثمان يخطب، فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء، فكلمه ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان، فجزّ برجله حتى كُسر له ضلعان، فتكلمت عائشة، وقالت قولاً كثيراً، وبعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى الكوفة، ومصحف إلى البصرة، ومصحف إلى المدينة، ومصحف إلى مكة، ومصحف إلى مصر، ومصحف إلى الشام، ومصحف إلى البحرين، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى الجزيرة، وأمر الناس أن يقرؤوا على نسخة واحدة. وكان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون قرآن آل فلان، فأراد أن يكون نسخة واحدة، وقيل: إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه، فلما بلغه أنه يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا.
وقيل: كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان، واعتلّ ابن مسعود، فأتاه عثمان يعوده، فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال: ذكرت الذي فعلته بي، أنك أمرت بي فوطئ جوفي، فلم أعقل صلاة الظهر، ولا العصر، ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك! قال: ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: فهذا عطاؤك، فخذه. قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا غني عنه؟ لا حاجة لي به، فانصرف. فأقام ابن مسعود مغاضباً لعثمان حتى توفّي، وصلى عليه عمار بن ياسر، وكان عثمان غائباً فستر أمره. فلما انصرف رأى عثمان القبر، فقال: قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود. قال: فكيف دفن قبل أن أعلم؟ فقالوا: ولى أمره عمار بن ياسر، وذكر أنه أوصى ألا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات المقداد، فصلى عليه عمار، وكان أوصى إليه، ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب عثمان على عمار، وقال: ويلي على ابن السوداء! أما لقد كنت به عليماً" (174).
في لباب الأنساب والألقاب يقال نقلاً عن الشعبي: "لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء من الصحابة غير عثمان، ولقد فارق علي الدنيا وما جمعه. وصح من وجوه، أن عثمان قرأ القرآن كله في ركعة. وقال أنس: إن حذيفة قدم على عثمان، وكان يغزو مع أهل العراق قبل أرمينية، فاجتمع في ذلك الغزو أهل الشام، وأهل العراق، فتنازعوا في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما يكره، فركب حتى أتى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى في الكتب. ففزع لذلك عثمان، فأرسل إلى حفصة أم المؤمنين: أن أرسلي إلي بالصحف التي جمع فيها القرآن، فأرسلت إليه بها، فأمر زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن ينسخوها في المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن إنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى كتبت المصاحف، ثم رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل إليهم به، فذلك زمان حرقت فيه المصاحف بالنار" ( 452).
في تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة تختلف تماماً التفاصيل في السبب الذي أدّى بعثمان لأن يحرق المصاحف ويعتمد مصحفاً بعينه، بما في ذلك النص الذي أوردناه من قبل: "عن أبي محمد القرشي: أن عثمان بن عفان (رض) كتبَ إلى الأمصار: أما بعد فإن نفراً من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القراَن، فاختلفوا اختلافاً شديداً فقال بعضهم قرأتُ على أبي الدرداء، وقال بعضهم قرأتُ على حرفِ عبد الله بن مسعود، وقال بعضهم قرأت على حرف عبد الله بن قيس، فلما سمعتُ اختلافهم في القراَن والعهدُ برسول اللّه (ص) حديث ورأيت أمراً منكراً، فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن، وخشيتُ أن يختلفوا في دينهم بعد ذَهَابِ من بقي من أصحاب رسول الله (ص) الذين قرؤوا القراَن على عَهْده وسَمِعوه من فِيه، كما اختلفَت النصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى ابن مريم، وأحببت أن ندارك من ذلك، فأرْسلت إلى عائشة أم المؤمنين (رض) أن ترسل إليّ بالأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عَنْ فَم رسول الله (ص) حين أوْحاه الله إلى جبريل، وأوحاهُ جبريلُ إلى محمد، وأنزله عليه، وإذ القَرآنُ غضٌ، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك، ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس، وكان زيد بن ثابت أحفظنا للقرآن، ثم دعوت نفراً من كتاب أهل المدينة وذوي عقولهم، منهم نافع بن طَرِيف وعبدُ الله بن الوليد الخزاعي وعبد الرحمن بن أبي لُبَابَة فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأدم أربعة مصاحف وأن يَتَحَفَّظُوا. حدثنا محمد بن الفضل عارم قال، حدثنا القاسم بن الفضل قال، حدثنا عمرو بن مرة الجملي قال: استأْذن رَجُلٌ على ابن مسعود، (رض) فقال الآذن: إن القوم…، والأشعري وإذا حذيفة يقول لهم: أما إنكما إن شئتما أقمتما هذا الكتاب على حرف واحد فإني قد خشيت أن يتهوّن الناس فيه تهوّن أهل الكتاب، أما أنت يا أبو موسى فيطيعك أهل اليمن، وأما أنت يا ابن مسعود فيطيعك الناسُ. قال ابن مسعود: لو أني أعلم أن أحداً من الناس أحفظُ مني لشدَدْتُ رَحْلي براحلتي حتى أُنِيخ عليه، قال: فكان الناس يرون أن حُذيفةَ (رض) ممَن عَمِلَ فيه حتى أتى على حرف واحد. حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا جعفر بن بُرقان قال، حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي قال: أتيت دارَ أبي موسى الأشعري فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجّار فقلتُ: هؤلاء والله الذين أريد، فأخذت أرتقي لهم فإذا غلامٌ على الدرجة فمنعني أن أرتقي إليهم فنازعته حتى التَفتَ إليَّ بعضُهم فأتيتهم حتى جَلسْتُ إليهم فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان (رض) فأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه. فقال أبو موسى: ما وجدتم قي مصحفي هذا مِنْ زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نُقصان فاكْتُبوا فيه. فقال حذيفة (رض) : فكيف بما صنعنا، واللّه ما أحدٌ من أهل البلد يَرْغَب عن قراءة هذا الشيخ. يَعْني ابن مسعود، ولا أحد من أهل اليَمَن يَرْغَبُ عن قراءة هذا الآخر. يعني أبا موسى. وكان حذيفة هو الذي أشارَ على عثمان (رض) أن يَجْمعَ المصاحف على مُصْحَفِ واحد. حدثنا إبراهيم بن المنذر قال، حدثنا عبد اللّه بن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث، أن بكيراً حدث: أن ناساً كانوا بالعِرَاق يسأل أحدهم عن الآية فإذا قرأها قال: فإني أكفر بهذه، ففشا ذلك في الناس، واختلفوا في القراءة، فكلَم عثمان بن عفان (رض) في ذلك، فأمر بِجَمْعِ المصاحف فأحرقها، وكتب مَصَاحِف ثم بَثها في الأجْنَاد. حدثنا قال ابن وهب، أخبرني عمر بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حَاطِب قال: قامَ عثمان بن عفان (رض) فقال: مَنْ كان عنده من كتاب الله شيء فليأْتنا به، وكان لا يَقْبَل من ذلك شَيْئاً حتى يَشْهَد عليه شاهدان، فجاء خُزَيْمَة بن ثابت فقال: إني قد رأيْتُكُم تَرَكْتُم آيتَين من كتاب اللّه لم تكتبوهُما. قال: وما هما؟ قال: تلقَّيْتُ من رسول الله (ص) : "لَقَدْ جَاءَكُمْ رسولٌ مِنْ أنْفُسِكُم" إلى آخر السورة. قال عثمان: وأنا أشهد إنهما من عند اللّه، فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال: اِختم بهما. قال: فختم بهما" ( 293 ).
عبد الله بن مسعود وزيد بن حارثة: معركة المصاحف!
بعودة إلى آرثر جفري، نتابع التالي، (لا نمتلك أدنى فكرة حول الزمن الذي ابتدأ فيه يجمع مصحفه. لكن على ما يبدو أنه بدأ بجمع مواده والنبي على قيد الحياة وجعلها في صيغة مصحف حين استقرّ في الكوفة وراح ينظر إليه على أنه مرجع في القضايا القرآنيّة. على أية حال، يمكن أن نجد مصحفه قيد الاستعمال هناك حيث كان الكوفيّون يتبعونه قبل أن يقوم عثمان بن عفّان بتحريره الرسمي للقرآن. وحين أرسل عثمان إلى الكوفة النسخة الرسميّة من نصه المعياري وأمر بحرق كل النسخ الأخرى، رفض ابن مسعود تسليم نسخته، حيث أعرب عن سخطه من تفضيل نص لمدع شاب مثل زيد بن ثابت على نصّه، وهو الذي كان مسلماً حين كان زيد في صلب مشرك (ابن أبي داوود، 13). لكن على ما يبدو كان ثمة اختلاف كبير في الرأي في الكوفة بشأن مسألة المصحفين، فقد قبل بعضهم بالمصحف الجديد الذي أرسله عثمان، لكن عدداً كبيراً حافظ على تمسّكه بمصحف ابن مسعود (كامل ابن الأثير (تحقيق تورنبرغ) III، 86، 87 )، الذي كان يعتبر وقتها مصحف الكوفة. ويمكننا الاستدلال على قوة مصحف ابن مسعود في الكوفة عبر مجموعة من المصاحف الثانوية التي وصلت بعض معلومات منها إلينا والتي تتبع نص ابن مسعود. ومن شعبيته في الكوفة صار مفضّلاً في الدوائر الشيعيّة، مع أن المرء لا يميل لأن يقبل بكل القراءات الشيعيّة التي تنسب إلى مصحفه على أنها أصليّة، ولا تلك الموجودة في المراجع السنيّة لصالح أهل البيت) (السابق).
نحاول هنا ما أمكن توثيق ما أورده جفري من إشارات سريعة غير موثقة، حول مسألة موقف ابن مسعود من عثمان وزيد، ونظرته إلى ذاته كمرجع قرآني بلا منازع. قال ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق:"خطب ابن مسعود على المنبر؛ فقال: من يغلل يأت بما غل يوم القيامة، غلوا مصاحفكم، كيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله (ص) بضعاً وسبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما نزل من القرآن إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بأكبركم، ولو أعلم مكاناً تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته. قال أبو وائل: فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق فما أحد ينكر ما قال " ( 1899 ). وفي نص الذهبي: "أن ابن مسعود كره لزيد نسخ المصاحف وقال: يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاها رجل غيري، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب أبيه، يا أهل الكوفة: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها" (432). وفي النص ذاته: "لما جعل عثمان زيد بن ثابت على كتابة المصاحف، وتطلب سائر مصاحف الصحابة ليغسلها أو يحرقها، ففعل ذلك ليجمع الأمة على مصحف واحد.قال أبو وائل: خطب ابن مسعود وقال: غلوا مصاحفكم، كيف يأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله (ص) بضعاً وسبعين سورة، وإن زيداً ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان" (432). وفي مختصر تاريخ دمشق لابن منظور تفاصيل إضافيّة: "عن خمير بن مالك؛ قال: سمعت ابن مسعود يقول: إني غال مصحفي، فمن استطاع أن يغل مصحفاً فليغلل، فإن الله يقول:"من يغلل يأت بما غل يوم القيامة"…وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، فقال: يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ كتاب المصاحف، ويولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب أبيه كافر- يريد زيد بن ثابت- ولذلك قال عبد الله: يا أهل الكوفة-أو يا أهل العراق- اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله عز وجل يقول:"ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" فالقوا الله بالمصاحف. قال الزهري: فبلغني أن ذلك كره من مقالة ابن مسعود كرهه رجال من أفاضل أصحاب النبي (ص) . قال ابن أبي داود: عبد الله بن مسعود بدري وزيد ليس هو بدرياً وإنما ولوه لأنه كاتب رسول الله (ص). وعن علقمة قال: قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء فقال: كنا نعد عبد الله حناناً فما باله يواثب الأمراء؟! وعن ابن عباس قال: أي القراءتين تعدون أول؟ قال: قلنا: قراءة عبد الله. قال: لا، إن رسول الله (ص) كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه، فإنه عرض عليه مرتين بحضرة عبد الله، فشهد ما نسخ منه وما بدل. قال: وإنما شق ذلك على ابن مسعود لأنه عدل عنه مع فضله وسنه وفوض ذلك إلى من هو بمنزلة ابنه، وإنما ولى عثمان زيد بن ثابت لحضوره وغيبة عبد الله، ولأنه كان يكتب الوحي لرسول الله (ص) وكتب المصحف في عهد أبي بكر الصديق. وقد روي عن ابن مسعود أنه رضي بذلك وتابع ووافق رأي عثمان في ذلك. وراجع فيما روي عن عبد الله بن مسعود أنه أتاه ناس من أهل الكوفة فقرأ عليهم السلام، وأمرهم بتقوى الله عز وجل وألا يختلفوا في القرآن ولا يتنازعوا فيه، فإنه لا يختلف ولا ينسى ولا ينفذ لكثرة الرد، أفلا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة حدودها وفرائضها وأمر الله فيها، ولو كان شيء من الحرفين يأتي بشيء ينهى عنه الآخر كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامع لذلك كله، وإني لأرجو أن يكون قد أصبح فيكم اليوم من الفقه والعلم من خير ما في الناس، ولو أعلم أحداً تبلغنيه الإبل هو أعلم بما أنزل على لقصدته حتى أزداد علماً إلى علمي، فقد علمت أن رسول الله (ص) كان يعرض عليه القرآن كل عام مرة فعرض عام توفي فيه مرتين، فكنت إذا قرأت عليه أخبرني أني محسن، فمن قرأ على قراءتي فلا يدعها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء هذه الحروف فلا يدعه رغبة عنه، وإن من جحد بحرف منه حجد به كله" (1899).
في تاريخ المدينة المنورة نجد تفاصيل أخرى حول موقف عبد الله بن مسعود من تولية عثمان زيد بن حارثة في مسألة وضع نص معياري للقرآن: "أن ابن مسعود (رض) كَرِه أن وَلي زيد نسخَ كتاب المصاحف، وقال: أي مَعْشر المسلمين أأعزَل عن نسخِ كتاب المصاحف فيُولأَها رجل، واللّه لقد أسلمت وأنه لفي صلب رجل كافر. وعند ذلك قال عبد الله: يا أهل العراق غلوا المصاحف والقوا الله بها فإنه "مَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيَامَة"، فالقوا الله بالمصاحف. قال الزهري: قال ابن مسعود وإني غال مصحَفي، فمن استطاع أن يَغُل مصحفه فليفعل… بعث عثمان (رض) إلى عبد الله أن يَدْفَع المصحفَ إليه. قال: ولمَ ؟ قال: لأنه كتب القراَن على حرفِ زَيْد. قال: أما أن أعْطِيَهُ المصحف فلن أُعْطِيَكُمُوه ومن استطاع أن يَغُلّ شيئاً فليفعل، والله لقد قرأتُ مِن في رسول اللّه (ص) سبعين سورة، وإن زيداً لذو ذؤابتين يلعب بالمدينة… لمّا أُمِرَ بالمصاحف أن تُغَيَّر ساء ذلك عبد الله بن مسعود (رض) فقال: من استطاع منكم أن يَغُلّ مصحفاً فليَفْعَل فإن من غَلّ شيئاً جاء بما غَلّ يومَ القيامة، ثم قال: لقد قرأْتُ القرآن من في رسول الله (ص) سبعين سورة، وزيد صبي، أَفأَتْرُكُ ما أخذتُ مِن في رسول الله (ص) … عن حمزة بن عبد الله قال: بلغني أنه قيل لعبد الله بن مسعود (رض) : ما لك لا تقرأ على قراءة فُلان؟ فقال: لقد قرأتُ على رسول الله (ص) سبعين سورة فقال لي: لَقَدْ أحْسَنْت، وإن الذي يسألون أنْ أقْرَأَ على قِراءتِه في صلْب رَجُل كافر" (295).
في كتابنا، يوم انحدر الجمل من السقيفة، توقفنا مطولا عند الأخطاء الفاحشة للخليفة الثالث، عثمان بن عفّان، والتي أوصلت في النهاية إلى سلسلة كوارث كان أوجها سقوط الحكم الراشدي وقيام نظام بني أميّة الملكي. من تلك الأخطاء التي لا تغتفر ضربه عبد الله بم مسعود لرفضه تسليم مصحفه لحرقه من أجل تعميم نص معياري فرضه عثمان بقوة السلطة. بل يمكن أن نجد في أكثر من مرجع اعترافاً لعثمان ذاته بأن ما فعله مع ابن مسعود كان خطأ لا يغتفر. ورد في سمط النجوم العوالي للعصامي عن عثمان قوله حول أخطائه: "وأما الخامس وهو ضربي لابن مسعود، فإنه إنما كان للأدب حين امتنع من إتيانه بالمصحف ليجتمع الناس على مصحف واحد؛ فكان لي ذلك؛ فأحرقت مصحفه وكان من أكبر المصالح؛ فإنه لو بقي في أيدي الناس أدى ذلك إلى فتنة كبيرة في الدين؛ لكثرة ما فيه من الشذوذ، ولحذفه المعوذتين مع شهرتهما - وأما هجري له فلم تزل هذه سيمة الخلفاء قبلي" (467).
لكن الصحابة، كما نقل لنا ابن شيبة في تاريخ المدينة المنورة، اختلفت مواقفهم من مسألة فرض عثمان لنص بعينه وإغفاله – أو حرقه – لباقي النصوص: "عن مصعب بن سعد قال: أدركتُ أصحاب رسول الله (ص) حين شَقق عثمان (رض) المصاحف، فأعجبهم ذلك؛ أو قال: لم يُنكِرْ ذلك منهم أحد. (أو): فما رأيت أحداً منهم عَابَ ما صنع عثمان (رض) في المصاحف. (أو): سمعتُ رجالاً من أصحاب النبي (ص) يقولون لَقَدْ أحْسَن. (بالمقابل، ينقل النص نفسه) عن أبي مجلذ قال: عابوا على عثمان (رض) تَمزيقَ المصاحف، وصدَقُوه بما كتب لهم. (أو): عن أبي مجلذ قال: عابوا على عثمان رضي الله عه تشقيق المصاحف وقد آَمنوا بما كتب لهم انظر إلى حمقهم!! (وفي نص ثالث): أن عثمان (رض) لَمَا جمع القراَن في مصحف واحد، جمَع الصحف والعُسُب التيّ كان فيها القرآن فجعلها في صندوق واحد وكَره أن يحرق القرآن أو يشققه" (295).
مصحف ابن مسعود: الآيات الناقصة وترتيب السور واختلاف أسمائها!
بعودة إلى نص جفري آنف الذكر؛ نقول : (لقد عُرف جيداً منذ بدايات الإسلام أن إحدى خصائص مصحف ابن مسعود افتقاده السور الأولى والـ113 والـ 114، أي الفاتحة، الصلاة التي تفتتح الكتاب، والمعوذتين، أي اللتين ينتهي بهما (أنظر: نولدكه- شفالي، I، 108؛ على ما يبدو أن الفاتحة أضيفت لبعض النسخ التي حملت اسم ابن مسعود؛ قارن الإتقان، 152، 187؛ وابن النديم، الفهرست، 26 ). الباحثون المعاصرون يعتقدون، بناء على أسس مغايرة بالكامل، أن هذه الآيات لم تكن في الأصل جزءاً من القرآن لكنها أضيفت لاحقاً لغايات ليتورجيّة. والدليل على أن ابن مسعود كان يعرف أن هذه المقاطع إنما تستعمل ليتورجياً يكمن في حقيقة أنها محفوظة لدينا في حواش من كلمات ميزها فيها عن الطريقة العادية لقراءتها.
السمة الأخرى التي نعرفها عن مصحف ابن مسعود أيضاً هي أن نظام ترتيب السور في تحريره يختلف كثيراً عن ذلك الموجود في مصحف عثمان. وقد حفظت لنا قائمتان تمدانا بمنظومة السور، واللتان، مع ذلك، لا تتفقان بالكامل فيما بينهما. الأولى هي تلك التي يقدمها ابن النديم (337) (هذا التاريخ الذي يقال إنه أنهى فيه الفهرست؛ أما تاريخ وفاته فغير مؤكّد)، ص 26، (تحرير فلوغيل) نقلاً عن الفضل بن شاذان (قبل 280 )، وتسير كما يلي:
2- 4- 3- 7- 6- 5- 10- (في تاريخ الطبري I، 2963، يقال إن سورة يونس التي هي العاشرة في النسخ المعاصرة هي التاسعة كما هي الحال عليه هنا. يقول شفالي إن هنالك خطأ طباعيّاً في نص الطبري استبدل السابعة بالتاسعة، لكن باور يقف ضد هذا الرأي ZDMG,LXXV, 15 ) – 9- 16- 11- 12- 17- 21- 23- 26- 37- 33- 28- 24- 8- 19- 29- 30- 36- 25- 22 -13- 34- 35- 14- 47- 31 (نقرأ في النص، القمر، الذي هو عنوان السورة 54؛ لكن كون هذا يقدّم لاحقاً تحت عنوان اقتربت الساعة، يجب أن نصححه مع فلوغيل Anmerkungen 14 إلى لقمان، والذي يقول شفالي، إن الإتقان أكد عليه ) – 39- ( 40 إلى 46 ) (الحواميم تعني مجموعة من السور تبدأ بكلمة حم ومن دون أدنى شك ليست هنا غير عنوان تمهيدي لمجموعة من السور لمتعاقبة)- 40- 43- 41- 46- 45- 44- 48- 57- 59 (هذه السور التي أوصلت شفالي إلى نوع من الاضطراب وفلوغيل إلى نوع من التلغيز ليست غير جزء من عنوان السورة 59. هنالك مجموعة من السور بعنوان المسبحات، أي السور 57- 59- 61- 62- 64 )- 32- 50- 65- 49- 67- 64- 63- 62- 61- 72- 71- 58- 60- 66- 55- 53- 51- 52- (يقول الفهرست إن بعضهم يقدّم 52 على 51) 54- 69- 56- 68- 79- 70- 74- 73- 83- 80- 76- 75- 77- 78- 81- 82- 88- 87- 92- 89- 85- 84- 96- 90- 93- 94- 86- 100- 107- 101- 98- 91- 95- 104- 105- 106- 102- 97- 103- 110- 108- 109- 111- 112.
السور المفقودة هنا هي: 1- 15- 18- 20- 27- 42- 99- 113- 114. السور 1- 113 – 114 محذوفة من مصحفه كما رأينا للتو، لكن كنصوص بقراءات مختلفة للسور الأخرى، غير الأولى والثالثة عشرة والرابعة عشرة التي يتم حذفها هنا يمكن أن نجدها منقولة عنه المواد التي تم توليفها منها لا بد أنها كانت في مصحفه. والحقيقة أنه يمكننا أن نجدها كلها في قائمة سوره التي يقدّمها لنا الإتقان. وحين نفحص هذه السور المفقودة نكتشف أن الـ 15 هي الأخيرة في سلسة سور الر؛ 18 تأتي مباشرة قبل سورة كهيعص (19) ويمكن أن أن نرتاب أن لها علاقة ما بها ( Goossens, Der Islam, XIII, 211 )؛ 20 هي سورة طه الوحيدة؛ 27 هي سورة طس التي ترد بين سورتي حم، وهكذا يمكن للمرء أن يرتاب أن هنالك شيئاً يكمن خلف حذفها من الفهرست. مع ذلك، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحقيقة القائلة إن السور المحذوفة موجودة في قائمة الإتقان، وأن الفهرست ذاته يقول بوضوح إنه عدها 110 سور في حين لا توجد في القائمة غير 105، الاحتمال هو أن القائمة مدونة بشكل ناقص.
القائمة الثانية موجودة في الإتقان للسيوطي (نسخة كالكوتا، ص 151)، والذي يستشهد بنص لابن أشتة يرجع إلى جرير بن عبد الحميد (مات 188)، الذي كان يروي أحاديث عن الأعمش وآخرين من مدرسة ابن مسعود. هذه القائمة تسير كما يلي:
2- 4- 3- 7- 6- 5- 10- 9- 16- 11- 12- 18- 17- 21-20 - 23- 26- 37- 33- 28- 27 - 24- 8- 19- 29- 30- 36- 25- 22 -13- 34- 35- 14- 47- 31 – 39- 40- 43- 41-42 - 46- 45- 44- 48- 59- 32- 65- 49- 67- 64- 63- 62- 61- 72- 71- 58- 60- 66- 55- 53- 51- 52- 54- 56- 68- 79- 70- 74- 73- 83- 80- 76- 75- 77- 78- 81- 82- 88- 87- 92- 89- 85- 84- 96- 90- 93- 94- 86- 100- 107- 101- 98- 91- 95- 104- 105- 106- 102- 97-99- 103- 110- 108- 109- 111- 112- 94.
هنا نجد إلى جانب السور المتوقع أن تكون محذوفة، أي 1- 113- 114، سوراً أخرى محذوفة أيضاً هي 50- 57- 69، والتي لا يمكن أن نقدّم عذراً لحذفها غير القول إنها أسقطت بخطأ كتابي. والقائمتان تتطابقان بما يكفي بالنسبة لنا كي نأخذ السور المفقودة في هذه القائمة من القائمة الأخرى، ويمكن لنا التعامل معهما كقرائتين مختلفتين لنص مشترك بالنسبة لمنظومة السور في مصحف ابن مسعود ).
بعودة أخرى إلى المراجع الإسلامية البارزة؛ يمكن الاستشهاد بالشهرستاني في الملل والنحل، الذي كتب في المسألة؛ إن " طوائف من أصحاب نبيكم عليه السلام ومن تابعيهم الذين تعظمون وتأخذون دينكم عنهم قرؤوا القرآن بألفاظ زائدة ومبدلة لا تستحلون أنتم القراءة بها وإن مصحف عبد الله بن مسعود خلاف مصحفكم وأيضاً فإن طوائف من علمائكم الذين تعظمون وتأخذون عنهم دينكم يقولون إن عثمان بن عفان أبطل قراءات كثيرة صحيحة وأسقطها إذ كتب المصحف الذي جمعكم عليه وعلى حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن عندكم وأيضاً فإن الروافض يزعمون أن أصحاب نبيكم بدلوا القرآن وأسقطوا منه وزادوا فيه قال أبو محمد كل هذا لا متعلق لهم بشيء منه على ما نبين بما لا إشكال فيه على أحد من الناس " ( 175).
ويؤكّد الرافعي في تاريخ الأدب العربي على أنه "لم تكن المصاحف التي كتبت قبل مصحف عثمان على هذا الترتيب المعروف في السور وإلى اليوم. فإنما هو ترتيب عثمان! أما فيما وراء ذلك فقد رووا أن رسول الله (ص) كان إذا نزلت سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، فكان القرآن مرتب الآيات، غير أنه لم يكن مجموعاً بين دفتين، فلا يؤمن أن يضطرب نسق مجموعه في أيدي الناس باضطراب القطع التي كتب فيها تقديما وتأخيراً: ولم يلزم الناس القراءة يومئذ بتوالي السور، وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أو كتبها ثم خرج في سرية فنزلت سورة أخرى فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته، ويتبع ما فاته على حسب ما تسهل له أكثره أو أقله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم وتقديم المؤخر، فلما جمعه أبو بكر برأي عمر كتبوه على ما وقفهم عليه رسول الله (ص)، ثم كانوا في أيام عمر يكتبون بعض المصاحف منتسقة السور على ترتيب ابن مسعود، وترتيب أبيّ بن كعب، وكلاهما قد سرده ابن النديم في كتابه (الفهرست)، وقال ابن فارس: "إن السور في مصحف عليّ كانت مرتبة على النزول، فكان أوله سورة اقرأ باسم ربك، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم تبَّت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدنيّ، ولا حاجة بنا أن نتسع في استقصاء هذا الخلاف أما ترتيب مصحف عثمان فهو نسق زيد بن ثابت. وهو صاحب العرضة الأخيرة ولعله كان ترتيب مصحف أبي بكر أيضاً، لما مرّ في الرواية عن زيد من أنه قابل بين الاثنين معارضة، والله أعلم. ولم يكن بعد انتشار المصاحف العثمانية وانتساخها على هيئتها إلا أن استوثقت الأمة على ذلك بالطاعة وأحرق كل امرئ ما كان عنده مما يخالفها ترتيباً أو قراءة، وأطبق المسلمون على ذلك النسق وذلك الحرف، ثم أقبلوا يجدّون في إخراجها وانتساخها. ولقد روى المسعودي أنه رفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحو من خمسمائة مصحف، وهي الخدعة المشهورة التي أشار بها عمرو بن العاص في تلك الواقعة، ولم يكن بين جمع عثمان إلى يوم صفين إلا سبع سنوات. وهنا أمر لا مذهب لنا دون التنبيه عليه، وذلك أن جمع القرآن كان استقصاء لما كتب، واستيعاباً لما في الصدور، فكانوا لا يقبلون إلا بشهادة قد امتحنوها، أو حلف قد وثقوا من صاحبه، وإلا بعد العرض على من جمعوا وعرضوا على رسول الله (ص) . فإن الصحابة كانوا لا يحسنون التهجي، وقد يكتبون ما يقرؤون على وجه من وجوه الكتابة، أو يكتبون بحرف من القراءات، كالذي رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كنت عند عثمان (رض) وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها "لم يتسن" و"فأمهل الكافرين"، و"لا تبديل للخلق" قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب "خلق الله" ومحا "فأمهل" وكتب "فمهل" وكتب "يتسنه" ألحق فيها هاء والقراءة على هذا الرسم. فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول "إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملاً على ما وصفوا من كيفية جمعه، وهو باطل من الظن، لما علمته من أنباء حفظته الذي جمعوه وعرضوه، ثم لما رأيت من تثبتهم في ذلك حتى جمعت لهم الصحة من أطرافها، ثم لإجماع الجم الغفير من الصحابة على أن ما بين دفتي المصحف هو الذي تلقوه عن رسول الله (ص) لم يأته الباطن من بين يديه ولا من خلفه، ولا اقتطع منه الباطل شيئاً " ( 146 ).
هنا، صار من الضروري أن نورد نص ابن النديم كما جاء في الفهرست بالحرف: " قال الفضل بن شاذان وجدت في مصحف عبد الله بن مسعود تأليف سور القرآن على هذا الترتيب البقرة النساء آل عمران المص الأنعام المائدة يونس براءة النحل هود يوسف بني إسرائيل الأنبياء المؤمنون الشعراء الصافات الأحزاب القصص النور الأنفال مريم العنكبوت الروم يس الفرقان الحج الرعد سبأ المليكة إبراهيم ص الذي كفروا القمر الزمر الحواميم المسبحات حم المؤمن حم الزخرف السجدة الأحقاف الجاثية الدخان إنا فتحنا الحديد سبح الحشر تنزيل السجدة ق الطلاق الحجرات تبارك الذي بيده الملك التغابن المنافقون الجمعة الحواريون قل أوحي إنا أرسلنا نوحاً المجادلة الممتحنة يا أيها النبي لم تحرم الرحمن النجم الذاريات الطور اقتربت الساعة الحاقة إذا وقعت ن والقلم النازعات سأل سائل المدثر المزمل المطففين عبس هل أتى على الإنسان القيامة المرسلات عم يتساءلون إذا الشمس كورت إذا السماء انفطرت هل أتاك حديث الغاشية سبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى الفجر البروج انشقت اقرأ باسم ربك لا أقسم بهذا البلد والضحى ألم نشرح لك والسماء والطارق والعاديات أرأيت القارعة لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب الشمس وضحاها والتين ويل لكل همزة الفيل لإيلاف قريش التكاثر إنا أنزلناه والعصر إن الإنسان لفي خسر إذا جاء نصر الله إنا أعطيناك الكوثر قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب قل هو الله أحد الله الصمد فذلك مائة سورة وعشر سور وفي رواية أخرى الطور قبل الذاريات قال أبو شاذان قال ابن سيرين وكان عبد الله بن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه ولا فاتحة الكتاب وروى الفضل بإسناده عن الأعمش قال في قوله في قراءة عبد الله حم سق قال محمد بن إسحاق رأيت عدة مصاحف ذكر نساخها أنها مصحف بن مسعود ليس فيها مصحفان متفقان وأكثرها في رق كثير النسخ وقد رأيت مصحفاً قد كتب منذ مائتي سنة فيه فاتحة الكتاب والفضل بن شاذان أحد الأئمة في القرآن والروايات فلذلك ذكرنا ما قاله دون ما شهدناه " ( 15 ).
للسيوطي نص هام جداً في الإتقان في علوم القرآن، استشهد به جفري، نجد أنه من المفيد إيراده بالحرف هنا أيضاً: " قال ابن أشتة أيضاً: وأخبرنا أبو الحسن بن نافع أن أبا جعفر محمد بن عبد الحميد قال: تأليف مصحف عبد الله بن مسعود. الطوال: البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس. والمئين: براءة والنحل وهود ويوسف والكهف وبني إسرائيل والأنبياء وطه والمؤمنون والشعراء والصافات. والمثاني: الأحزاب والحج والقصص وطس النمل والنور والأنفال ومريم والعنكبوت والروم ويس والفرقان والحجر والرعد وسبأ والمالئة وإبراهيم وص والذين كفروا ولقمان والزمر والحواميم: حم والزخرف والسجدة وحمعسق والأحقاف والجاثية والدخان والممتحنات إنا فتحنا لك والحشر وتنزيل السجدة والطلاق ون والقلم والحجرات وتبارك والتغابن وإذا جاءك المنافقون والجمعة والصف وقل أوحى وإنا أرسلنا والمجادلة والممتحنة ويا أيها النبي لم تحرم. والمفصل: الرحمن والنجم والطور والذاريات واقتربت الساعة والواقعة والنازعات وسأل سائل والمدثر والمزمل والمطففين وعبس وهل أني والمرسلات والقيامة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت والغاشية وسبح والليل والفجر والبروج وإذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك والبلد والضحى والطارق والعاديات وأرأيت والقارعة ولم يكن والشمس وضحاها والتين وويل لكل همزة وألم تر كيف ولئيلاف قريش وأهاكم وإنا أنزلناه وإذا زلزلت والعصر وإذا جاء نصر الله والكوثر وقل يا أيها الكافرون وتبت وقل هو الله أحد وألم نشرح، وليس فيه الحمد ولا المعوذتان " ( 76 ). ويكمل السيوطي ؛ فيقول: "وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين، وفي مصحف أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين واللهم إنا نستعينك واللهم إياك نعبد وتركهن ابن مسعود" (76).
من ناحية أخرى، ورد في إعجاز القرآن للباقلاني، "فإن قيل لولا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن، وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هو من القرآن أم لا، ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره؛ وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط. وقد يجوز أن يكون شذ عن مصحفه لا لأنه نفاه من القرآن، بل عول على حفظ الكل إياه. على أن الذي يروونه خبر واحد لا يسكن إليه في مثل هذا ولا يعمل عليه، ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه وهذا نحو ما يذكره الجهال من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود وبين مصحف عثمان رحمة الله عليهما، ونحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة، كما يغلط الحافظ في حروف وينسى. وما لا نجيزه على الحفاظ، مما لم نجزه عليه، ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا، أمر يوجب التفكير والتضليل، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه ؟ وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة بالإجماع المتقرر، والاتفاق المعروف؟" ( 92 ). بالنسبة لاختلاف تسمية السور، يقول السيوطي "الطلاق تسمى سورة النساء القصرى، وكذا سماها ابن مسعود… تبارك تسمى سورة الملك. وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: هي في التوراة سورة الملك، وهي المانعة، تمنع من عذاب القبر… وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: كنا نسميها في عهد رسول الله (ص) المانعة " ( 63 ).
في أسرار ترتيب القرآن للسيوطي يطالعنا نص هام آخر، يظهر مدى الإرباك الذي رافق عملية ترتيب سور القرآن، والذي لعب الزمن وإرادة السلطات الدينية الدور الأوحد في إلقاء ستائر النسيان عليه؛ يقول السيوطي: "فانظر إلى ابن عباس (رض) ، كيف استشكل علي عثمان (رض) أمرين: وضع الأنفال وبراءة في أثناء السبع الطوال، مفصولاً بهما بين السادسة والسابعة، ووضع الأنفال وهي قصيرة مع السور الطويلة وانظر كيف أجاب عثمان (رض) أولاً بأنه لم يكن عنده في ذلك توقيف، فإِنه استند إلى اجتهاد، وأنه قرن بين الأنفال وبراءة لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على القتال، ونبذ العهود، وهذه وجه بين المناسبة جلى، فرضي الله عن الصحابة، ما أدق أفهامهم! ما أدق أفهامهم! وأجزل آراءهم! وأعظم أحلامهم! وأقول: يتم بيان مقصد عثمان (رض) في ذلك بأمور فتح الله بها: الأول: أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها، لكونها مشتملة على البسملة، فقدمها لتكون لفظة منها، وتكون براءة بخلوها منها كتتمتها وبقيتها، ولهذا قال جماعة من السلف: إن الأنفال وبراءة سورة واحدة، لا سورتان الثاني: أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول، فإنه ليس في القرآن بعد الأعراف أنسب ليونس طولاً منها، وذلك كاف في المناسبة الثالث: أنه خلَّل بالسورتين الأنفال وبراءة أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول، للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف، وإلى أن رسول الله (ص) قبض قبل أن يبين محلهما، فوضعا كالموضع المستعار بين السبع الطوال، بخلاف ما لو وضعتا بعد السبع الطوال، فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف، وترتيب السبع الطوال يرشد إلى دفع هذه الوهم فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله بها، ولا يغوص عليها إلا غواص الرابع: أنه لو أخرهما وقدم يونس، وأتى بعد براءة بهود، كما في مصحف أبي بن كعب، لمراعاة مناسبة السبع الطوال، وإيلاء بعضها بعضاً، لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن تولى بالسور الخمس التي بعدها، لما اشتركت فيه من الاشتمال على القصص، ومن الافتتاح بالذكر، وبذكر الكتاب، ومن كونها مكيات، ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار وبالتسمية باسم نبي، والرعد اسم ملك، وهو مناسب لأسماء الأنبياء فهذه سنة وجوه في مناسبة الاتصال بين يونس وما بعدها، وهي أكثر من ذلك الوجه السابق في تقديم يونس بعد الأعراف ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل، مع كونها أقصر منها ولو أخرت براءة عن هذه السور الست المناسبة جداً بطولها لجاءت بعد عشر سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر، فإنها ليست كبراءة في الطول ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرنا من تقديم الحجر على النحل لمناسبة ذوات (الر) قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبة البقرة، مع الافتتاح ب (الم)، وتوالى الطواسين والحواميم، وتوالى العنكبوت والروم والقمر والسجدة، لافتتاح كل بـ (الم)، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها هذا ما فتح الله به وأما ابن مسعود فقدم في مصحفه البقرة على النساء، وآل عمران، والأعراف، والأنعام، والمائدة، ويونس، فراعى الطوال، وقدم الأطوال فالأطول ثم ثنى بالمئين، فقدم براءة، ثم النحل، ثم هود، ثم يوسف، ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول، وذكر الأنفال بعد النور ووجه مناسبتها لها: أن كلا منهما مدنية، ومشتملة على أحكام، وأن في النور (وعَدَ اللَهُ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات ليستَخلِفنهم في الأَرض كما استخلف الذين مِن قبلِهِم) وفي الأنفال (واذكروا إِذ أَنتُم مُستَضعَفون في الأَرض تخافون) ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة، فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل، وذكر به في الثانية فتأمل " ( 10 ).
وفي صفوة الصفوة لابن الجوزي؛ يقال: "وسورة النساء في هذا الحديث مقدمة على آل عمران وكذلك هي في مصحف ابن مسعود"( 34 ).
مصحف ابن مسعود: الاختفاء المفاجئ؟
يبدو أن مصحف ابن مسعود استمر طويلاً بعد رحيل واضعه؛ يخبرنا ابن الجوزي في المنتظم أنه " في يوم الأحد عاشر رجب جرت فتنة بين أهل الكرخ والفقهاء بقطيعة الربيع وكان السبب أن بعض الهاشميين من أهل باب البصرة قصدوا أبا عبد الله محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم، وكان فقيه الشيعة في مسجده بدرب رياح وتعرض به تعرضاً امتعض منه أصحابه فثاروا واستنفروا أهل الكرخ، وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد بن الأكفاني وأبي حامد الأسفرايني فسبوهما وطلبوا الفقهاء ليواقعوا بهم ونشأت من ذلك فتنة عظيمة، واتفق أنه أحضر مصحفاً ذكر أنه مصحف ابن مسعود وهو يخالف المصاحف، فجمع الأشراف والقضاة والفقهاء في يوم الجمعة لليلة بقيت من رجب وعرض المصحف عليهم، فأشار أبو حامد الأسفرايني والفقهاء بتحريقه ففعل ذلك بحضرتهم فلما كان في شعبان كتب إلى الخليفة بأن رجلاً من أهل جسر النهروان حضر المشهد بالحائر ليلة النصف، ودعا على من أحرق المصحف وسبه، فتقدم بطلبه فأخذ فرسم قتله، فتكلم أهل الكرخ في هذا المقتول لأنه من الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين أهل باب البصرة وباب الشعير والقلائين، وقصد أحداث الكرخ باب دار أبي حامد فانتقل عنها ومعتد دار القطن وصاحوا: حاكم يا منصور فبلغ ذلك الخليفة فأحفظه وأنفذ الخول الذين على بابه لمعاونة أهل السنة وساعدهم الغلمان، وضعف أهل الكرخ وأحرق ما يلي بنهر الدجاج، ثم اجتمع الأشراف والتجار إلى دار الخليفة فسألوه العفو عما فعل السفهاء فعفا عنهم " ( 1804 ). ويقول اليافعي في مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان مؤكّداً ما سبق الحديث عنه من قبل ابن الجوزي: " ثارت فتنة هائلة ببغداد. قصد رجل شيخ الشيعة ابن المعلم وهو الشيخ المفيد وأسمعه ما يكره، فثار تلامذته، وقاموا، واستنفروا الرافضة، وأتوا قاضي القضاة أبا محمد الأكفاني، والشيخ أبا حامد الأسفراييني، فسبوهما، فحميت الفتنة، ثم إن أهل السنة أخذوا مصحفاً قيل إنه على قراءة ابن مسعود، فيه خلاف كثير، فأمر الشيخ أبو حامد والفقهاء بإتلافه، فأتلف بمحضر منهم، فقام ليلة النصف رافضي، وشتم فأخذ، فثارت الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين السنية، واختفى أبو حامد، واستنفرت الروافض، وصاحوا حاكم يا منصور، فغضب القادر بالله، وبعث خيلاً لمعاونة السنية، فانهزمت الرافضة، حرق بعض دورهم، وذلوا وأمر عميد الجيوش بإخراج ابن المعلم من بغداد، فأخرج، وحبس جماعة، ومنع القصاص مدة " ( 395 ).
في تاريخ الشافعية للسبكي، نجد تفاصيل إضافية تحدد لنا السنة: " ومن محاسن الشيخ أبي حامد أنه اتفق في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وقوع فتنة بين أهل السنة والشيعة ببغداد بسبب إخراج الشيعة مصحفا قالوا إنه مصحف ابن مسعود وهو يخالف المصاحف كلها، فثار عليهم أهل السنة وثاروا هم أيضاً ثم آل الأمر إلى جمع العلماء والقضاة في مجلس فحضر الشيخ أبو حامد وأحضر المصحف المشار إليه فأشار الشيخ أبو حامد والفقهاء بتحريقه ففعل ذلك بمحضر منهم فغضبت الشيعة وقصد جماعة من أحداثهم دار الشيخ أبي حامد ليؤذوه فانتقل منها ثم سكن الخليفة الفتنة وعاد الشيخ أبو حامد إلى داره " ( 492 ).
يؤكّد الذهبي في العبر ما أشير إليه آنفاً حيث يقول: "كانت فتنة هائلة ببغداد، قصد رجلٌ شيخ الشِّيعة ابن المعلّم، وهو الشيخ المفيد، وأسمعه ما يكره، فثار تلامذته، وقاموا واستنفروا الرافضة، وأتوا دار قاضي القضاة، أبي محمد بن الأكفاني، والشيخ أبي حامد بن الأسفراييني، سبّوهما، وحميت الفتنة. ثم إن السُّنّة أخذوا مصحفاً، قيل إنه على قراءة ابن مسعود فيه خلاف كثير، فأمر الشيخ أبو حامد والفقهاء بتحريقه، فأحضر بمحضر منهم، فقام ليلة النصف رافضي وشتم من أحرق المصحف، فأخذ وقتل، فثارت الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين السنة، واختفى أبو حامد، واستظهرت الروافض، وصاحوا: الحاكم يا منصور، فغضب القادر بالله، وبعث خيلاً لمعاونة السنة، فانهزمت الرافضة، وأحرقت بعض دورهم وذلُّوا، وأمر عميد الجيوش، بإخراج ابن المعلِّم من بغداد،أخرج. وحبس جماعة، ومنع القصّاص مدّة "( 175).
ابن كثير من ناحيته يقول في البداية والنهاية: "على فتيا الشيخ أبي حامد الأسفراييني فيما ذكره ابن الجوزي في "منتظمه": وفي عاشر رجب جرت فتنة بين السنة والرافضة، سببها أن بعض الهاشميين قصد أبا عبد الله محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم - وكان فقيه الشيعة - في مسجده بدرب رباح، فعرض له بالسب فثار أصحابه له واستنفر أصحاب الكرخ وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الأكفاني والشيخ أبي حامد الأسفراييني، وجرت فتنة عظيمة طويلة، وأحضرت الشيعة مصحفاً ذكروا أنه مصحف عبد الله بن مسعود، وهو مخالف للمصاحف كلها.فجمع الأشراف والقضاة والفقهاء في يوم جمعة لليلة بقيت من رجب، وعرض المصحف عليهم فأشار الشيخ أبو حامد الأسفراييني والفقهاء بتحريقه، ففعل ذلك بمحضر منهم، فغضب الشيعة من ذلك غضباً شديداً، وجعلوا يدعون ليلة النصف من شعبان على من فعل ذلك ويسبونه، وقصد جماعة من أحداثهم دار الشيخ أبي حامد ليؤذوه فانتقل منها إلى دار القطن، وصاحوا: يا حاكم يا منصور.وبلغ ذلك الخليفة فغضب وبعث أعوانه لنصرة أهل السنة، فحرقت دور كثيرة من دور الشيعة وجرت خطوب شديدة، وبعث عميد الجيوش إلى بغداد لينفي عنها ابن المعلم فقيه الشيعة، فأخرج منها ثم شفع فيه، ومنعت القصاص من التعرض للذكر والسؤال باسم الشيخين، وعلي (رض) م، وعاد الشيخ أبو حامد إلى داره على عادته "( 728).
أما لباب الأنساب والألقاب فيقول في الحدث ذاته: "وفي رجب قصد بعض الهاشميين أبا عبد الله محمد بن النعمان بن المعلم شيخ الشيعة، وهو في مسجد، وتعرض به تعرضاً امتعض منه تلامذته، فثاروا واستنفروا أهل الكرخ، وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الأكفاني والشيخ أبي حامد الإسفراييني فسبوهما، وطلبوا الفقهاء ليوقعوا بهم، ونشأت فتنة عظيمة، وأحضر مصحف ذكروا أنه مصحف ابن مسعود، وهو يخالف المصاحف، فجمع له القضاة والكبار، فأشار أبو حامد والفقهاء بتحريفه، ففعل ذلك بمحضرهم، وبعد أيام كتب إلى الخليفة بأن رجلاً حضر المشهد ليلة نصف شعبان، ودعا على من أحرق المصحف وشتمه، فتقدم بطلبه، فأخذ، فرسم بقتله، فتكلم أهل الكرخ في أمر هذا المقتول لأنه من الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين أهل البصرة وباب الشعير ونهر القلائين، وقصد أهل الكرخ دار أبي حامد، فانتقل عنها، ونزل دار القطن، وصاح الروافض: "يا حاكم يا منصور"، فأحفظ القادر بالله ذلك، وأنفذ الفرسان الذين على بابه لمعاونة السنة، وساعدهم الغلمان، فانكسر الروافض وأحرق ما يلي نهر الدجاج، ثم اجتمع الرؤساء إلى الخليفة، فكلموه، فعفا عنهم ودخل عميد الجيوش بغداد، فراسل ابن المعلم بأن يخرج عن بغداد ولا يساكنه، ووكل به، فخرج في رمضان، وضرب جماعة، ممن قام في الفتنة، وحبس آخرين، ومنع القصاص من الجلوس" (2861 ).
من ناحيته، يقول السرخسي في المبسوط : "ونحن أثبتنا التتابع بقراءة ابن مسعود فإنها كانت مشهورة إلى زمن أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى كان سليمان الأعمش يقرأ ختما على حرف ابن مسعود وختما من مصحف عثمان (رض) والزيادة عندنا تثبت بالخبر المشهور" (282). ويؤكّد ذلك المطرزي في المغرب في ترتيب المعرب: " كَانَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتَمًا أَيْ يَخْتِمُ خَتْمًا مَرَّةً بِحَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَرَّةً مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ - (رض) " ( 98 ).
بالمقابل، نجد معلومة في صبح الأعشى تربط بين الخوارج ومصحف ابن مسعود: "وهم الخوارج ويعتمدون في القرآن الكريم على مصحف عبد الله بن مسعود (رض) ، دون المصحف الذي أجمع عليه الصحابة (رض) م، فلا يثبتون ما لم يثبت فيه قرآناً" ( 2261 ).
نختم أخيراً هذه الفقرة المتعلّقة باختفاء مصحف ابن مسعود بعودة سريعة إلى الفقرة الأخيرة من كتاب جفري من مقدمته لمصحف ابن مسعود: (إن قيمة هذا التقليد مسألة أخرى. وهنالك عبارة في الفهرست (ص 26) عن ابن اسحق، تقول إن هنالك مصاحف عديدة موجودة يفهم منها أنها مصحف ابن مسعود، لكن ما من أحد منها يتفق مع الآخر. ويزعم ابن النديم أنه رأى نسخة قديمة جداً مما أورده الفهرست. ليس من المرجح بديهيّاً أن ترتيب المواد في أي من المصاحف المتنافسة كان سيتبع ترتيب السور ذاته الموجود في النص الذي وضعه زيد بن ثابت لعثمان بن عفّان. في الروايات المتعلقة بذلك التحرير الرسمي نجد قطعاً من مواد تأتي واللجنة تنظر في المكان الأنسب الذي يجب أن توضع به، ومن غير المحتمل على الإطلاق أن السور المركبة التي تم وضعها من قطع من مواد مكيّة وأخرى مدنيّة، التي تختلف زماناً ومكاناً جداً، سوف توضع في المكان ذاته تحديداً من قبل الجامعين المتباينين. كذلك من غير المرجّح أن يكون الجامعون المختلفون اختاروا العناوين ذاتها لتلك السور. أما الأحاديث المتعلّقة بنظام السور، في حالة مصحف ابن مسعود أو غيره من المصاحف، فهي ترد من أشخاص يعرفون منظومة السور في المصحف العثماني، لكنهم عرفوا أن المواد تم ترتيبها بشكل مختلف عن المصحف العثماني في المصاحف الأخرى، فوضعوا بالتالي قوائم سور يعبرون فيها عن هذا الاختلاف.
ثمة نظريّة بديلة مفادها أنه حين كان النص العثماني قيد التداول العام، تم ترتيب المواد في مصحف ابن مسعود في نسخ جديدة جعل لها عناوين السور التي للمصحف العثماني، مع أنها لا تتبع الرتيب ذاته. لذلك من الواضح بالطبع أن الكتّاب المتأخرين الذين استخدموا موادّ من هذه المصاحف القديمة كانوا سيستشهدون بها وفق سور وآيات النص العثماني).
أمثلة توضيحيّة:
في عملنا على الفوارق النصيّة بين المصاحف، وجدنا كثيراً من تلك الفوارق في أمهات الكتب الإسلاميّة. وقبل أن نورد بعض ما توصلنا إليه، يبدو من المناسب الاستشهاد بالفوارق التي دونها جفري في عمله، والتي تتعلّق فقط بسورة الفاتحة؛ فالبحث المنشور في موقع بحثي أو مجلة تخصصيّة يختلف عن الكتاب الذي يمكن التفصيل فيه أكثر.
يقول جفري إن ابن مسعود قرأ الفاتحة على النحو التالي، والنص من عندنا لكننا غيّرنا فيه وفق ما أورده جفري من فروقات في عمله: (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ملك يوم الدين. أرشدنا الصراط المستقيم. صراط من أنعمت عليهم. غِير المغضوب عليهم ولا الضّالين. آمين).
في واحد من أهم كتب التفسير عند أهل السنّة والجماعة، القرطبي، نجد أمثلة منها: نبدأ بسورة البقرة؛ في الآية 196، يقول ابن مسعود: "أقيموا الحج والعمرة" عوضاً عن "أتموا الحج والعمرة" ( ص 406 ). في الآية 214 يقال "وزلزلوا فزلزلوا ويقول حقيقة الرسول "، عوض "وزلزلوا حتى يقول الرسول" ( 294 ). في الآية 248؛ يقال: "يغفر" بدل "فيغفر" ( ص 486 ).
في كشاف الزمخشري (72)؛ يقال إن ابن مسعود قرأ "ثومها" ( بقرة 61 ) بدل "فومها". وفي الروض الآنف للسهيلي؛ يقال: "وقيل في الفوم: إنه الثوم، واختاره ابن قتيبة، واحتج بأنه في مصحف عبد الله بن مسعود: وثومها "(253). وفي رسالة الملائكة للمعري (2) نجد ما يفيد بالمعنى ذاته.
بعودة إلى القرطبي، تطالعنا فيه الفروقات التالية: "وفي قراءة ابن مسعود "وأنزل الملائكة تنزيلا" لأن معنى نزل وأنزل واحد (فرقان 25)" ( 729 ) عوض: "ونزّل الملائكة تنزيلا". " في مصحف عبد الله بن مسعود: "قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم" ( 19:8 ) " ( 1544 )؛ عوض: "وإن تنتهوا فهو خير لكم".
" وقرئ "يوم يأت" لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة " ( 158:6 )؛ بدل "يوم يأتي" (1771).
" وفي مصحف ابن مسعود "ووصى" وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضا وعلي وغيرهما, وكذلك عند أبي بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو "ووصى ربك" فالتصقت إحدى الواوين فقرئت "وقضى ربك" إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد " (الإسراء) ( 2039 ).
" وفي قراءة ابن مسعود "وقالوا لبثوا" " ( 2115 )؛ بدل " ولبثوا " ( كهف 25 ). " وفي مصحف ابن مسعود:" أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق "" ( 2227 ) بدل: " أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى " ( 15:20 ).
" وفي قراءة ابن مسعود "ولا تهنا في ذكري" وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي " ( 2233 )، بدل: " ولا تنيا في ذكري " ( 15:20 ).
" وقرأ ابن مسعود: "فلكزة"؛ وقيل: اللكز في اللحى والوكز على القلب وحكى الثعلبي أن في مصحف عبد الله بن مسعود "فنكزه" بالنون والمعنى واحد" (2600)؛ عوض: "فوكزه" ( القصص 15 ).
" عن أسماء أنها سمعت النبي (ص) يقرأ: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم" توبة. وفي مصحف ابن مسعود "إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء"" (2987) (الزمر 53 ).
" وقرأ ابن عباس: "حم. سق" بغير عين. وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود " (3037 )؛ (الشورى 1-2 ).
" وعن مجاهد "فلا تقهر" فلا تحتقر. وقرأ النخعي والأشهب العقيلي "تكهر" بالكاف، وكذا هو في مصحف ابن مسعود " ( 3693 ) ( الضحى 9 ).
" وفي حرف أبيّ: "فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين". وفي مصحف ابن مسعود: "لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين". وقد تقدم ". (3714 )؛ ( البينة 1 ).
" وقرأ عكرمة "ليألف" بفتح اللام على الأمر وكذلك هو في مصحف ابن مسعود " ( 3741 )؛ بدل "لإيلاف" ( قريش 1 ).
ننتقل الآن إلى أمالي القالي؛ حيث يقال: "وفي مصحف ابن مسعود: قشطت". وفي المزهر للسيوطي؛ يقال: "وقريش تقرأ: "وإذا السَّماء كُشِطت" وأسد: قُشِطت، وكذا هي في مصحف ابن مسعود" " ( 175 )؛ عوض (تكوير 11 ). وفي المخصص لابن سيده: "وقُرَيش تقول: كَشَطت، وقيس وتميم وأسد تقول: قَشَطت، وفي مصحف عبد الله بن مسعود قُشِطَتْ " ( 1280 (. وفي القلب والإبدال: "قال وقريش تقول كشطت وقيس وتميم وأسد قشطت، وفي مصحف عبد الله بن مسعود قشطت بالقاف" (11).
في كشاف الزمخشري، نقرأ: " وقرئ: "وأن هذا صراطي مستقيماً" وفي مصحف عبد الله: وهذا صراط ربكم " ( 384 ) ( الانعام 155 ) . ثم يقال: "وفي مصحف ابن مسعود "أخي واشدد" " ( 753 ) ( طه 30، 31 )؛ بدل: " أخي أشدد".
في المقتضب للمبرد، يقال: "وهذه الآية في مصحف ابن مسعود "وإذن لا يلبثوا خلفك" ( 64 )؛ بدل: "وإذاً لا يلبثون خلفك "(الاسراء 76).
في لباب الأنساب والألقاب للبيهقي؛ يقال: "ذكر الثعلبي في تفسيره عن الأعمش عن أبي وائل أنه قال: قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين" (10) ؛ بدل: "آل إبراهيم وآل عمران على العالمين" (آل عمران 33).
في تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين للصفاقسي؛ نقرأ: "وقرأ وَماَ يعَلَمُ تَأوِيلَهُ إلا اللهُ ويقوُلُ الراسخُونَ في الْعِلْمِ ءَامَناَ بِه وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود" (61)؛ بدل: " وما بعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " ( آل عمران 7).
وفي كتاب الصناعتين للعسكري، نقرأ: "وقال الله تعالى: "وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال"، بمعنى لتكاد تزول منه. ويقال إنها في مصحف ابن مسعود مثبتة، وقد جاءت في القرآن مثبتة وغير مثبتة ". ( إبراهيم 46 ) ( 108).
وفي المحيط والمحيط الأعظم لابن سيده، ورد: "وأرْعِني سمعك، ورَاعِنِي سمعك أي استمع إليَّ، وفي التنزيل "لا تَقُولُوا رَاعِنا" وفي مصحف ابن مسعود راعونا" (287)؛ (البقرة 104)